خلال الأيام القليلة الماضية بحث مؤتمر مؤسسة الفكر العربي موضوع تحديات الفوضى وصناعة الاستقرار، وقد دعيت للتحدث في هذا المؤتمر حول الظروف الاقتصادية مثل الفقر، والتفاوت، والبطالة، وفيما إذا مثل هذه الظروف من شأنها إحداث الفوضى وزعزعة الاستقرار، ونزولاً عند رغبة بعض الزملاء ارتأيت نشر هذا الحديث تعميماً للفائدة.
بالرغم من أن الفقر والتفاوت والبطالة قد لا تكون بالضرورة أحد الأسباب أو السبب الرئيس فيما شهدته بعض البلدان عربية أو غير عربية من اضطرابات وعنف وعدم استقرار، إلا أنه مع ذلك لا يمكن تماماً استبعاد مثل هذه الأسباب والظروف الاقتصادية بشكل عام من أن تكون أو قد أدت إلى حالات من التذمر والعنف والفوضى. هناك كما نعرف أسباب عديدة خاصة في منطقتنا وراء الأحداث والاضطرابات والفوضى منها عدم تطور الأنظمة السياسية بشكل يكفل حرية التعبير وحرية المشاركة السياسية، كما يرجع بعضها إلى ما تمارسه بعض الأنظمة من تسلط واستبداد، هذا كما يرجع البعض منها إلى الصراعات والتوترات المذهبية. في مجتمعات أخرى، والتي شهدت نوعاً من الاضطرابات وأعمال العنف، يرجع ذلك إلى تهميش بعض فئات هذا المجتمع، كما يرجع ذلك في حالات أخرى إلى عدم قدرة هذه المجتمعات على دمج بعض فئاتها من المهاجرين، كما حدث منذ بضع سنوات في أحداث ضواحي باريس في فرنسا، وكما يحدث الآن من وقت إلى آخر في دول أوروبية عدة.
بالتأكيد إن الفقر والتفاوت والبطالة في أي مجتمع، تمثل ضغوطاً نفسية واجتماعية كبيرة تؤدي بكثير من الأفراد إلى سلوك طريق العنف والتمرد وعدم قبول الوضع القائم. قد لا يكون الفقر في بعض البلدان مثل دول مجلس التعاون الخليجي يمثل ظاهرة هامة، لكنه بالنسبة لدول عربية أخرى، فإنه يطال شريحة كبيرة من المجتمع تستدعي الرعاية والاهتمام.
كلنا يتذكر الاضطرابات التي شهدتها بعض الدول العربية في فترة ما، بسبب رفع سعر الخبز أو بسبب تقليص الدعم والإعانات التي تخص الفقراء على وجه التحديد، كذلك لا بد أننا نتذكر قصة بوعزيزي في سيدي بوزيد في تونس الذي أحرق نفسه بسبب منعه من الاسترزاق من خلال بيع الفاكهة والخضروات على ناصية الطريق، الحادثة التي أشعلت ما تعارف على تسميته بـ«الربيع العربي».
لا بد كذلك أن نتذكر، ونحن بصدد التطرق إلى الفقر، الجهود التي تم بذلها من قبل بعض الدول العربية لمعالجة هذه الظاهرة، إلا أن التفاوت الكبير بين فئات المجتمع قللت من أهمية هذه الجهود. المغرب على سبيل المثال بذل جهوداً هامة في محاربة الفقر، إلا أن التفاوت بين فئات المجتمع ظل شاسعاً بشهادة المسؤولين وبشهادة ملك المغرب نفسه، الذي أشار إلى أن النمو الاقتصادي الذي حققه المغرب لم يعم حسبما يبدو جميع فئات المجتمع.
على صعيد آخر، وفي مجال التفاوت، تطرق الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي إلى هذا الموضوع في كتابه الشهير رأس المال في القرن الواحد والعشرين والذي تناول فيه التفاوت المتزايد في المجتمعات الغربية، وقد تطرق هذا الاقتصادي مؤخراً إلى الوضع في الشرق الأوسط من خلال مقال نشره في جريدة «الليموند» الفرنسية، والذي أشار فيه إلى أن التفاوت بين الأفراد في دول الشرق الأوسط، هو أحد أسباب عدم الاستقرار، وقد يكون حتى وراء الإرهاب وليس بالضرورة التعصب الديني.
إن التفاوت في المجتمعات العربية يرجع في جزء منه إلى طبيعة نموذج التنمية المتبع، حيث بالرغم من تحقيق هذا النموذج لمعدلات نمو جيدة بعضها وصل إلى 5% و6% في بعض الفترات، إلا أن هذا النمو لم تنل ثماره جميع فئات المجتمع، بل العكس، أدى إلى اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، الأمر الذي من شأنه خلق حالة من التذمر والاستياء من الأوضاع القائمة، وبالتالي النزعة إلى تغيير هذه الأوضاع، وإن كان ذلك عن طريق العنف والتمرد والفوضى.
إن أهم مظاهر تزايد التفاوت بين الطبقات الاجتماعية في دولنا العربية، هو تلاشي حجم الطبقة المتوسطة، حيث لم يتبقَّ في كثير من الحالات إلا الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة، وللأسف وحسبما يبدو فإننا لم نتمكن حتى الآن من تطوير أنظمة فعالة لشبكات الحماية الاجتماعية، كما أننا لم نستطع تطوير نظم ضريبية عادلة كالضرائب التصاعدية لمعالجة التفاوت بين فئات المجتمع، لكن أيضاً التفاوت المتزايد بين المناطق الجغرافية المختلفة في البلد الواحد.
وفي الواقع ما ينطبق على الفقر والتفاوت ينطبق أيضاً على البطالة وتأثيرها في نشر حالات اليأس والإحباط لدى أفراد المجتمع. إن البطالة في العالم العربي تعتبر مرتفعة وتزيد عن 14%، وهي تمثل ضعف هذه النسبة لدى فئات الشباب التي تتراوح أعمارهم بين 15-24 سنة. ولا شك في أن طول فترة عدم الحصول على عمل أو وظيفة، من شأنه أن يؤدي إلى توجه العاطل إلى الانتقام من مجتمعه من خلال لجوئه إلى تنظيمات تخريبية أو حركات تمردية أو حتى إرهابية.
لكن يبقى السؤال قائماً، هل بالفعل الفقراء والمهمشون والعاطلون عن العمل هم وراء القلاقل والتمرد والفوضى والإرهاب؟ والجواب في اعتقادي ليس بالضرورة، حيث إن كثيراً من الذين انخرطوا في هذه الأعمال التخريبية والإرهابية ليسوا بالضرورة فقراء أو عاطلين عن العمل ولا هم حتى من مستوى تعليمي متدنٍّ، بل العكس، الكثير منهم من عوائل ميسورة، وهم ذوو تعليم عالٍ ومتخرجون من أشهر الجامعات. إن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وزميله أيمن الظواهري على سبيل المثال، هم من عوائل ميسورة، وذوو مستوى تعليمي ليس بالمتدني، ولم يكن الفقر بالطبع هو دافعهم إلى التمرد والإرهاب، كذلك الأفراد الذين قادوا أو انخرطوا في بعض ثورات المنطقة ليسوا بالضرورة من الفقراء، كما أنهم من خريجي جامعات عريقة. على كل حال، فإن العلاقة بين الفقر والبطالة من جانب، والتمرد والعنف من جانب آخر، هي علاقة حسبما تبدو جدلية أي خاضعة للجدل، حيث لا يمكن تبرير كل ما يحصل من اضطرابات على أنه فقط بسبب الفقر والبطالة، لكن في نفس الوقت من الصعب عدم اعتبار الفقر والبطالة كأحد الأسباب الرئيسة لعدم الانسجام وعدم الترابط في المجتمع، الأمر الذي ينعكس في كثير من الحالات في شكل فقدان السلم والأمن الاجتماعي في المجتمعات المعنية بهذه الأوضاع.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي - عضو مجلس إدارة بلوم بنك
{{ article.visit_count }}
بالرغم من أن الفقر والتفاوت والبطالة قد لا تكون بالضرورة أحد الأسباب أو السبب الرئيس فيما شهدته بعض البلدان عربية أو غير عربية من اضطرابات وعنف وعدم استقرار، إلا أنه مع ذلك لا يمكن تماماً استبعاد مثل هذه الأسباب والظروف الاقتصادية بشكل عام من أن تكون أو قد أدت إلى حالات من التذمر والعنف والفوضى. هناك كما نعرف أسباب عديدة خاصة في منطقتنا وراء الأحداث والاضطرابات والفوضى منها عدم تطور الأنظمة السياسية بشكل يكفل حرية التعبير وحرية المشاركة السياسية، كما يرجع بعضها إلى ما تمارسه بعض الأنظمة من تسلط واستبداد، هذا كما يرجع البعض منها إلى الصراعات والتوترات المذهبية. في مجتمعات أخرى، والتي شهدت نوعاً من الاضطرابات وأعمال العنف، يرجع ذلك إلى تهميش بعض فئات هذا المجتمع، كما يرجع ذلك في حالات أخرى إلى عدم قدرة هذه المجتمعات على دمج بعض فئاتها من المهاجرين، كما حدث منذ بضع سنوات في أحداث ضواحي باريس في فرنسا، وكما يحدث الآن من وقت إلى آخر في دول أوروبية عدة.
بالتأكيد إن الفقر والتفاوت والبطالة في أي مجتمع، تمثل ضغوطاً نفسية واجتماعية كبيرة تؤدي بكثير من الأفراد إلى سلوك طريق العنف والتمرد وعدم قبول الوضع القائم. قد لا يكون الفقر في بعض البلدان مثل دول مجلس التعاون الخليجي يمثل ظاهرة هامة، لكنه بالنسبة لدول عربية أخرى، فإنه يطال شريحة كبيرة من المجتمع تستدعي الرعاية والاهتمام.
كلنا يتذكر الاضطرابات التي شهدتها بعض الدول العربية في فترة ما، بسبب رفع سعر الخبز أو بسبب تقليص الدعم والإعانات التي تخص الفقراء على وجه التحديد، كذلك لا بد أننا نتذكر قصة بوعزيزي في سيدي بوزيد في تونس الذي أحرق نفسه بسبب منعه من الاسترزاق من خلال بيع الفاكهة والخضروات على ناصية الطريق، الحادثة التي أشعلت ما تعارف على تسميته بـ«الربيع العربي».
لا بد كذلك أن نتذكر، ونحن بصدد التطرق إلى الفقر، الجهود التي تم بذلها من قبل بعض الدول العربية لمعالجة هذه الظاهرة، إلا أن التفاوت الكبير بين فئات المجتمع قللت من أهمية هذه الجهود. المغرب على سبيل المثال بذل جهوداً هامة في محاربة الفقر، إلا أن التفاوت بين فئات المجتمع ظل شاسعاً بشهادة المسؤولين وبشهادة ملك المغرب نفسه، الذي أشار إلى أن النمو الاقتصادي الذي حققه المغرب لم يعم حسبما يبدو جميع فئات المجتمع.
على صعيد آخر، وفي مجال التفاوت، تطرق الاقتصادي الفرنسي توماس بيكتي إلى هذا الموضوع في كتابه الشهير رأس المال في القرن الواحد والعشرين والذي تناول فيه التفاوت المتزايد في المجتمعات الغربية، وقد تطرق هذا الاقتصادي مؤخراً إلى الوضع في الشرق الأوسط من خلال مقال نشره في جريدة «الليموند» الفرنسية، والذي أشار فيه إلى أن التفاوت بين الأفراد في دول الشرق الأوسط، هو أحد أسباب عدم الاستقرار، وقد يكون حتى وراء الإرهاب وليس بالضرورة التعصب الديني.
إن التفاوت في المجتمعات العربية يرجع في جزء منه إلى طبيعة نموذج التنمية المتبع، حيث بالرغم من تحقيق هذا النموذج لمعدلات نمو جيدة بعضها وصل إلى 5% و6% في بعض الفترات، إلا أن هذا النمو لم تنل ثماره جميع فئات المجتمع، بل العكس، أدى إلى اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، الأمر الذي من شأنه خلق حالة من التذمر والاستياء من الأوضاع القائمة، وبالتالي النزعة إلى تغيير هذه الأوضاع، وإن كان ذلك عن طريق العنف والتمرد والفوضى.
إن أهم مظاهر تزايد التفاوت بين الطبقات الاجتماعية في دولنا العربية، هو تلاشي حجم الطبقة المتوسطة، حيث لم يتبقَّ في كثير من الحالات إلا الطبقات الغنية والطبقات الفقيرة، وللأسف وحسبما يبدو فإننا لم نتمكن حتى الآن من تطوير أنظمة فعالة لشبكات الحماية الاجتماعية، كما أننا لم نستطع تطوير نظم ضريبية عادلة كالضرائب التصاعدية لمعالجة التفاوت بين فئات المجتمع، لكن أيضاً التفاوت المتزايد بين المناطق الجغرافية المختلفة في البلد الواحد.
وفي الواقع ما ينطبق على الفقر والتفاوت ينطبق أيضاً على البطالة وتأثيرها في نشر حالات اليأس والإحباط لدى أفراد المجتمع. إن البطالة في العالم العربي تعتبر مرتفعة وتزيد عن 14%، وهي تمثل ضعف هذه النسبة لدى فئات الشباب التي تتراوح أعمارهم بين 15-24 سنة. ولا شك في أن طول فترة عدم الحصول على عمل أو وظيفة، من شأنه أن يؤدي إلى توجه العاطل إلى الانتقام من مجتمعه من خلال لجوئه إلى تنظيمات تخريبية أو حركات تمردية أو حتى إرهابية.
لكن يبقى السؤال قائماً، هل بالفعل الفقراء والمهمشون والعاطلون عن العمل هم وراء القلاقل والتمرد والفوضى والإرهاب؟ والجواب في اعتقادي ليس بالضرورة، حيث إن كثيراً من الذين انخرطوا في هذه الأعمال التخريبية والإرهابية ليسوا بالضرورة فقراء أو عاطلين عن العمل ولا هم حتى من مستوى تعليمي متدنٍّ، بل العكس، الكثير منهم من عوائل ميسورة، وهم ذوو تعليم عالٍ ومتخرجون من أشهر الجامعات. إن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وزميله أيمن الظواهري على سبيل المثال، هم من عوائل ميسورة، وذوو مستوى تعليمي ليس بالمتدني، ولم يكن الفقر بالطبع هو دافعهم إلى التمرد والإرهاب، كذلك الأفراد الذين قادوا أو انخرطوا في بعض ثورات المنطقة ليسوا بالضرورة من الفقراء، كما أنهم من خريجي جامعات عريقة. على كل حال، فإن العلاقة بين الفقر والبطالة من جانب، والتمرد والعنف من جانب آخر، هي علاقة حسبما تبدو جدلية أي خاضعة للجدل، حيث لا يمكن تبرير كل ما يحصل من اضطرابات على أنه فقط بسبب الفقر والبطالة، لكن في نفس الوقت من الصعب عدم اعتبار الفقر والبطالة كأحد الأسباب الرئيسة لعدم الانسجام وعدم الترابط في المجتمع، الأمر الذي ينعكس في كثير من الحالات في شكل فقدان السلم والأمن الاجتماعي في المجتمعات المعنية بهذه الأوضاع.
* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي - عضو مجلس إدارة بلوم بنك