كثيرون هم المبدعون والمثقفون الذين انتهت بهم طبيعة الحياة في مواجهة أمزجتهم إلى الانتحار. وكثيرة هي الدراسات التي حاولت فهم الأسباب التي تؤدي بالمبدع أو المثقف إلى الانتحار. ولست هنا في معرض إعادة القراءات السابقة أو مناقشتها. لكن.. وبعيداً عن المعنى البيولوجي للانتحار فإنه يعني الصمت النهائي بأسلوب احتجاجي عنيف. وهو ذو دلالة بالغة على عجز المثقف أو المبدع عن «التكيف» مع الواقع المحيط به.
يشير علماء النفس إلى أن مصطلح «التكيف» ورد إليهم من علم البيولوجيا. وكان أول من وضعه العالم تشارلز دارون في نظريته النشوء والارتقاء، حين عبر عن محاولة الكائنات الحية للتواؤم مع مكونات البيئة الطبيعية المحيطة بها من حرارة وبرودة ومطر وجغرافيا. ثم صار في الدراسات الإنسانية يعني قدرة المرء على التواؤم مع المتطلبات الاجتماعية وقدرته على تكوين علاقات مرضية بينه وبين بيئته. وفي كل الأحوال يهدف التكيف لحماية حياة الإنسان، وإبقائه منسجماً مع نفسه ومع محيطه.
وركائز التكيف الثلاث، حسب كثير من الدراسات النفسية، هي تكيف الإنسان مع البيئة الطبيعية والمادية، وتكيف الإنسان مع ذاته، وتكيف الإنسان مع مجتمعه. وقد اهتم علماء النفس والاجتماع كثيراً بتكيف المرء مع ذاته باعتبار الذات هي النواة الرئيسة التي تقوم عليها الشخصية. ولأن تصورات الإنسان عن ذاته وتقديره لها تتحكم كثيراً في علاقته بالآخرين، وتفنيده لنظرة الآخرين وتقييمهم له. ومن ثم بناء المشتركات والمختلفات معهم. كما إن إدراك المرء لحدود إمكاناته وقدراته هي التي ترسم له خطواته نحو الإنجاز ونحو النجاح أو الفشل. وحين يختل تقدير المرء لذاته ولإمكاناته زيادة أو نقصاناً، وحين تختل نظرته للواقع انطلاقاً من تركيبته الذاتية تبدأ مشكلة «تكيف» الذات مع البيئة والمجتمع المحيطين به، فيختل توازن الإنسان الفكري والوجداني.
على سبيل المثال، فإن سيرة حياة الأديب الأردني الكبير تيسير سبول وانتحاره، هي في حقيقتها سيرة عدم «تكيف». فعدم تقبله لطبيعة جامعة عريقة مثل الجامعة الأمريكية في بيروت التي بدأت دراسته الجامعية فيها، وانتقاله للدراسة في جامعة دمشق، تبدو بداية مقلقة لشخصية تتسم بحساسية مفرطة تجاه مفردات الواقع. وقد استمر تيسير سبول في عدم «التكيف» مع الوظائف التي عمل بها والأماكن التي عاش بها. وكانت روايته المتفردة «أنت منذ اليوم» منفستو عدم تكيف بطل الرواية «عربي» مع أسرته ومجتمعه والزعيم الديكتاتور الذي حكم الأمة ثم أُعدم. وقد بلغ تيسير سبول ذروة عدم «التكيف» مع الحياة بعد هزيمة 1967، ثم انتهاء نصر 1973 بالسلام مع إسرائيل فقرر الصمت التام وإنهاء حياته بالانتحار. وهذا النوع من الانتحار هو تعبير عن موقف رافض للهزيمة العربية والخنوع العربي وتحويل كل نصر أو بصيص نور إلى هزيمة وظلمة.
ولكن ثمة نوع آخر من انتحار المثقفين المرتبط بأزمة «التكيف». إنه انتحار غير مقرون بالصمت، بل مقرون بالكلام، والتعبير والإفاضة. ذلك أنه انتحار لا يتعارض مع إمكانات المثقف في «التكيف». بل يرتبط بمحاولة المثقف إلزام نفسه وإرغامها على التكيف. هذا الانتحار يسمح للمثقف بالبقاء حياً، آمناً، يمشي على الأرض ويستمر في النشر عبر الصحف أو دور النشر، ويعطيه الحظوظ الكبرى في الظهور في مختلف شاشات الفضائيات. إنه انتحار تبني الآراء السائدة المفروضة، الآراء التي تنحاز دوغمائياً أو برغماتياً للأحزاب السياسية أو الأنظمة الحاكمة أو السلطات الاجتماعية والدينية. والتي يرى المثقف أنه من العسير عليه أن ينتقدها رغم رفضه لها، وعدم قناعته بسلامتها وصحتها.
أزمة «التكيف» تكون عالية وخانقة هنا حين يضطر المثقف للتعبير عن تأييده لما يخالف قناعاته ومبادئه. وحين يُرغم على تبرير وتفسير ما لا يقبله. وتزداد قسوة «التكيف القسري» حين تكون الأفكار التي يُرغِم المثقف نفسه على نشرها وترويجها متعارضة مع توجهات المجتمع ومصالحه. إذ هنا يصبح المثقف متهماً، ويصنف بأنه أداة من أدوات الإضرار بالمجتمع وتشويه فكره.
حين يخير المثقف بين الصمت وبين الجهر بما يختلف معه، فإن ذلك من المحن التي يواجهها المثقف في دول تفتقد كثيراً في بنيتها الثقافية والاجتماعية والتشريعية للقوانين والأعراف التي تكفل حرية التعبير وتنظمها. مما يجعل المثقف مستهدفاً من جهات عدة. جهات ترغمه على ترويج أفكارها، وجهات تحاسبه على عدم الشجاعة والمواجهة. ولكن.. حين يتحدى المثقف مجتمعه والسلطات المهيمنة على منظومة الأفكار والقيم السائدة في مجتمع ما، فمن ينصر المثقف حين ينحاز للحق، من وجهة نظره.. أو حين يتمرد من وجهة نظر خصومه؟؟
يشير علماء النفس إلى أن مصطلح «التكيف» ورد إليهم من علم البيولوجيا. وكان أول من وضعه العالم تشارلز دارون في نظريته النشوء والارتقاء، حين عبر عن محاولة الكائنات الحية للتواؤم مع مكونات البيئة الطبيعية المحيطة بها من حرارة وبرودة ومطر وجغرافيا. ثم صار في الدراسات الإنسانية يعني قدرة المرء على التواؤم مع المتطلبات الاجتماعية وقدرته على تكوين علاقات مرضية بينه وبين بيئته. وفي كل الأحوال يهدف التكيف لحماية حياة الإنسان، وإبقائه منسجماً مع نفسه ومع محيطه.
وركائز التكيف الثلاث، حسب كثير من الدراسات النفسية، هي تكيف الإنسان مع البيئة الطبيعية والمادية، وتكيف الإنسان مع ذاته، وتكيف الإنسان مع مجتمعه. وقد اهتم علماء النفس والاجتماع كثيراً بتكيف المرء مع ذاته باعتبار الذات هي النواة الرئيسة التي تقوم عليها الشخصية. ولأن تصورات الإنسان عن ذاته وتقديره لها تتحكم كثيراً في علاقته بالآخرين، وتفنيده لنظرة الآخرين وتقييمهم له. ومن ثم بناء المشتركات والمختلفات معهم. كما إن إدراك المرء لحدود إمكاناته وقدراته هي التي ترسم له خطواته نحو الإنجاز ونحو النجاح أو الفشل. وحين يختل تقدير المرء لذاته ولإمكاناته زيادة أو نقصاناً، وحين تختل نظرته للواقع انطلاقاً من تركيبته الذاتية تبدأ مشكلة «تكيف» الذات مع البيئة والمجتمع المحيطين به، فيختل توازن الإنسان الفكري والوجداني.
على سبيل المثال، فإن سيرة حياة الأديب الأردني الكبير تيسير سبول وانتحاره، هي في حقيقتها سيرة عدم «تكيف». فعدم تقبله لطبيعة جامعة عريقة مثل الجامعة الأمريكية في بيروت التي بدأت دراسته الجامعية فيها، وانتقاله للدراسة في جامعة دمشق، تبدو بداية مقلقة لشخصية تتسم بحساسية مفرطة تجاه مفردات الواقع. وقد استمر تيسير سبول في عدم «التكيف» مع الوظائف التي عمل بها والأماكن التي عاش بها. وكانت روايته المتفردة «أنت منذ اليوم» منفستو عدم تكيف بطل الرواية «عربي» مع أسرته ومجتمعه والزعيم الديكتاتور الذي حكم الأمة ثم أُعدم. وقد بلغ تيسير سبول ذروة عدم «التكيف» مع الحياة بعد هزيمة 1967، ثم انتهاء نصر 1973 بالسلام مع إسرائيل فقرر الصمت التام وإنهاء حياته بالانتحار. وهذا النوع من الانتحار هو تعبير عن موقف رافض للهزيمة العربية والخنوع العربي وتحويل كل نصر أو بصيص نور إلى هزيمة وظلمة.
ولكن ثمة نوع آخر من انتحار المثقفين المرتبط بأزمة «التكيف». إنه انتحار غير مقرون بالصمت، بل مقرون بالكلام، والتعبير والإفاضة. ذلك أنه انتحار لا يتعارض مع إمكانات المثقف في «التكيف». بل يرتبط بمحاولة المثقف إلزام نفسه وإرغامها على التكيف. هذا الانتحار يسمح للمثقف بالبقاء حياً، آمناً، يمشي على الأرض ويستمر في النشر عبر الصحف أو دور النشر، ويعطيه الحظوظ الكبرى في الظهور في مختلف شاشات الفضائيات. إنه انتحار تبني الآراء السائدة المفروضة، الآراء التي تنحاز دوغمائياً أو برغماتياً للأحزاب السياسية أو الأنظمة الحاكمة أو السلطات الاجتماعية والدينية. والتي يرى المثقف أنه من العسير عليه أن ينتقدها رغم رفضه لها، وعدم قناعته بسلامتها وصحتها.
أزمة «التكيف» تكون عالية وخانقة هنا حين يضطر المثقف للتعبير عن تأييده لما يخالف قناعاته ومبادئه. وحين يُرغم على تبرير وتفسير ما لا يقبله. وتزداد قسوة «التكيف القسري» حين تكون الأفكار التي يُرغِم المثقف نفسه على نشرها وترويجها متعارضة مع توجهات المجتمع ومصالحه. إذ هنا يصبح المثقف متهماً، ويصنف بأنه أداة من أدوات الإضرار بالمجتمع وتشويه فكره.
حين يخير المثقف بين الصمت وبين الجهر بما يختلف معه، فإن ذلك من المحن التي يواجهها المثقف في دول تفتقد كثيراً في بنيتها الثقافية والاجتماعية والتشريعية للقوانين والأعراف التي تكفل حرية التعبير وتنظمها. مما يجعل المثقف مستهدفاً من جهات عدة. جهات ترغمه على ترويج أفكارها، وجهات تحاسبه على عدم الشجاعة والمواجهة. ولكن.. حين يتحدى المثقف مجتمعه والسلطات المهيمنة على منظومة الأفكار والقيم السائدة في مجتمع ما، فمن ينصر المثقف حين ينحاز للحق، من وجهة نظره.. أو حين يتمرد من وجهة نظر خصومه؟؟