الرواية حقيقة أخرى للحياة.. حقيقة متحركة، متطورة، متحولة، متنقلة. بدأت الرواية، من وجهة نظر النقاد، انعكاساً للحياة الاجتماعية والاقتصادية بمختلف دلالات الانعكاس. ثم حاولت تفسير الظواهر المحيطة بها والمولدة لها وبلورة رؤية للكون والإنسان والخالق. بعدها طمحت الرواية للتغيير وطرح بدائل.. كانت الرواية تسعى لأن تكون مشروعاً تنويرياً تقدمياً. إلى أن نجحت بعض المحاولات الروائية في التنبؤ عبر قراءة عميقة معمقة للواقع واستشراف مآلاته. وأخيراً رأت بعض التجارب الروائية في نفسها أنها حقيقة اللاحقيقة، وجدلية الهدم بعد البناء، والانهيار بعد الوثوب.

الرواية مغامرة.. نعم مغامرة في الكتابة والفكر وفي تدشين التجربة وتعميقها ومغايرتها. لذلك يبدو غريباً ما يحدث من اندفاع نحو الإنتاج الروائي غير المدروس لدى كثير من محبي الكتابة. أن يبدأ كم كبير من الشباب الهاوي مسيرتهم الأدبية بالإنتاج الروائي مباشرة دون المرور بمحاولات سردية على مستوى القصة القصيرة أو أي نوع كتابي، فتلك ظاهرة آخذة في الانتشار؟ خصوصا مع تدني عدد الروايات ذات القيمة الفنية الجيدة في إنتاجهم.

قيم السوق الاستهلاكي التي نجحت في اختراق كل مجالات الحياة، ومنها المجال الثقافي. وفلسفة بعض المسابقات الأدبية. والعلاقات الشخصية بين الكتاب وبعض النقاد أو محرري الصفحات الثقافية، جعلت الكثير يستهل عملية الإنتاج الروائي، ولا يرى فيه أكثر من فكرة غريبة أو صادمة أو جريئة.. وأحداث تنظمها، ونهاية سيئة تختمها. وبالاستعانة بوسائل التواصل الاجتماعي يستطيع أي كاتب «متذاكي»، الترويج مرحلياً لنفسه. نستطيع أن نتذكر بعض العناوين الصادمة لبعض الروايات التي ساعدت على الترويج للرواية رغم ضعفها. بإمكاننا أن نتذكر أيضاً الاستخدام غير الفني وغير الموظف للتابوهات من قبل بعض الروائيين للإيهام بأن لديهم قضايا صدامية مع الثقافة السائدة والعادات الموروثة. ليست رواية من تتشاجر مع المجتمع. ليس عملاً أدبياً من يمارس احتجاجاً زاعقاً منبتاً عن فكر سليم تجاه قضايا المجتمع واحتكاك المثقف بها. لكن الأساليب الدعائية الصاخبة والناجحة السابقة تصلح لملء مئات الأوراق، وكفيلة بأن يحصل أي منا على لقب «روائي».

لماذا يتجه هذا الكم من الناس شباباً وشياباً. طلاباً ونقاداً وصحافيين وأطباء وسياسيين وموظفين لكتابة الرواية بهذا الإقدام وبهذه الثقة؟ لا أحد يملك أن يحجر على أحد أو يمنعه من الكتابة والنشر. هذا مفهوم جداً ومُقدر. ومن جهة أخرى فإن هذه الظاهرة تدل على استمرار بريق الكتابة وجاذبيتها وانتماء الكثير في هذا الزمن للحاجة للكتابة. هذا أيضاً جيد ومطمئن إلى حدود ما. ولكن.. وفي ظل تراجع فاعلية الحركة النقدية في الوطن العربي. وفي ظل تعطل الحوارية، ودخول المثقفين في أزمة تفاهم. واختراق الوسط الثقافي والكتابي بالطارئين عليه والمتطفلين والساعين نحو الشهرة.. وفي ظل تضعضع المؤسسات الثقافية الأهلية، وخضوعها للتوجيهات الرسمية، وتراجع دورها في جمع المثقفين والكتاب والأدباء، وضعف دورها في دعم الأدباء المبتدئين والهواة وتعزيز تجاربهم بالنقد والتشريح والتعزيز. فإننا نسأل: ماذا نفعل بهذا الكم الغفير من الإنتاج الكتابي، والروائي تحديداً، الغث؟ هل يمكن أن نعول عليه في بناء تجارب تراكمية تؤسس لأعمال قيمة من الناحية الفنية والثقافية؟ هل يعكس طبيعة مرحلة ثقافية ضحلة ومسطحة واستهلاكية؟

ثم ماذا يريد هؤلاء الروائيون أن يقولوا؟ هل يعرفون لماذا يكتبون؟ لست أبداً من أنصار أن الأدب رسالة وأن الأديب صاحب رسالة. ذلك وببساطة لأن النظرة الوثوقية التي خلنا أنه يمكن تملكها قد سقطت صريعة أمامنا في مواجهة فوضى هذا العالم. ولكن الكاتب - الأديب - الروائي - هو صاحب وجهة نظر، صاحب رؤية، وموقف من ذاته والآخر والحياة.. سواء كان هذا الموقف موقف واضح، كما يظنه الكاتب، أو مضطرب، كما هي الحياة، أو موقف متحول، كما تصدمنا الأفكار. ولكن الكاتب المبدع هو الذي يعرف كيف يعبر عن ذاته وعمله بما يدهش استقبال المتلقي. الكتابة ليست نظم جمل أو أحداث. الكتابة مشروع إبداعي ينمو كما ينمو الطفل. حتى الطفل الذي بدأ حياته ذكياً واستثنائيا، لم يخرج عن سنن الكون في النمو. الرواية تحتاج مكابدة واجتهاد وتأمل. الرواية حالة، قد تكون ذاتية.. وقد تحل بها الجماعة.