قبل أكثر من عقد من الزمان تحدثنا هنا عن أهمية وضرورة تسرب واختفاء ما يسمى بالدولة الريعية إلى حيث اللارجعة، فمع تقدم الأمم العالمية وتوجه الدول المتقدمة نحو تعزيز مفاهيم الديمقراطية والحرية والبناء والتعاون، يكون الحديث عن الدولة الريعية «نكتة»، وكأن من يؤكد على مفاهيمها وتبني نظريتها في وقتنا الراهن كمن يطالبنا بالتخلي مثلاً عن أجهزتنا وأنظمتنا الذكية التي تنظم شؤوننا وحياتنا.

إن استمرار الدولة المعيلة تشعر الناس في نهاية المطاف بأنهم أيتام ولا قدرة لهم على تصريف شؤونهم الحياتية إلا وفق مشاريع الدولة وما يمكن أن تغدقه عليهم من هبات ومكرمات وعطايا، ومن هنا تتعطل مسيرة البناء والنهضة لأن فكرة التوكل التام على الدولة سيعطل من المسيرة التنموية، وسيقتل قيم التكافل والعمل الخيري والاعتماد على القطاع الخاص.

نحن ومنذ البداية لا نطالب من الدولة -أية دولة ريعية- أن ترفع يدها فجأة عن مهامها ومسؤولياتها التي كانت تقوم بها منذ عقود من الزمان الرخو، ولكن لا يجب أن تستمر الدولة المعيلة في هذا السلوك الذي بات من الماضي في عرف الدول المتحضرة، فقط لأن جماعة من الناس تحب أن تنال حقوقها كاملة وهي على فراش الكسل والتنصل من المسؤولية.

اليوم، بدأت الكثير من الشعوب العربية تعي هذا الأمر وتتخلى تدريجياً عن الدولة باعتبارها الأم الرؤوم على عيالها الكبار، لأن هذه الشعوب أدركت جيداً بأنها ليست مصابة بشلل الأطفال المعرفي والقيمي والإنتاجي، وصارت تعتمد على نفسها في البناء والإعمار والتطور دون انتظار دولها في إنقاذ حياتهم وتدليلهم لحاجة أو من دون حاجة.

ما نراه الآن في البحرين من انطلاقة حقيقية لمفهوم التكافل الاجتماعي يعتبر بادرة صادقة ذات نوايا حسنة في عدم انتظار الدولة بأن تأخذ دور المنقذ والأم في كل مرة يحتاج فيها المجتمع بأن يعتمد على نفسه، فالتبرعات التي نشاهدها ونقرأ عنها في كل مرة من طرف المواطنين أو منظمات المجتمع المدني أو الجمعيات الخيرية والاجتماعية في البحرين لإعالة أسرة محتاجة أو لبناء منزل آيل للسقوط أو محترق، أو لأجل علاج مريض تتجاوز تكلفة علاجة الحد المسموح به، كلها مشاهد مشرفة وناصعة ترشدنا بأن المجتمع البحريني بدأ يتلاءم مع فكرة التكافل بشكل جيد للغاية، ومن جهة أخرى بدأ يرفض فكرة الدولة الريعية المطلقة من أجل الاتكاء عليها بالمطلق، تلكم الدولة التي تنتج الأيتام لا الأبطال. ومع الأيام ستتبلور فكرة الدولة الحقيقية في وعي الناس وسلوكهم ومخرجات أفعالهم، وهذا هو المطلوب.