كتب الكاتب والروائي والمسرحي والناقد الأدبي والصحفي الفرنسي، بلزاك «القرن 19م»، متحدثاً عن المشتغلين بالصحافة في زمانه قائلاً: «في كثير من الأحيان نتعامل مع أشخاص لا يستحقون الاحترام، ولكن النفاق الاجتماعي يضطرنا إلى أن نمد إليهم اليد مصافحين، خوفاً من أحابيلهم، أو من أن نحتاج إليهم في يوم من الأيام. مما يؤدي إلى أن يكون لنا وفرة من «أصدقاء مزيفين»، تجعلنا نشتهي أن يكون لنا أعداء حقيقيون يستحقون الاحترام».
ذكرني هذا المقطع من رواية بلزاك «بنت حواء Une fille d'Ève»، بمقال للكاتب الصحفي الفرنسي كلود جوليان، نشره في صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية، في بداية الألفية بعنوان: «واجب التقليل من الاحترام»، الذي أكد فيه أن الكاتب الحقيقي يفضل الهروب من الاتّجار والوصولية، ويفضل الانعزال، بعيداً عن الضجيج الذي غالباً ما يشوّش الرؤية والعقل ويشلّ التفكير، عن العيش وسط هذا العالم المضطرب والسكران باهتياجه، «فما تزال فعّالية التأمّل حاضرة في عالمنا رغم فساده وتفاهته: فخلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي شاهدن أمثلة عديدة على ذلك. فمن داخل ديره، عرف الراهب الأمريكي الممتنع عن الكلام، كيف يكشف حجم المشاكل العنصرية، أفضل بكثير من علماء الاجتماع، وبدقة أرفع من المناضلين الذين شاركوا في النضال من أجل الحقوق المدنية، وغالبيتهم تخلّوا بسرعة عن المعركة أو غيّروا من توجّهاتهم.».
دفعني لهذه المقدمة الطويلة ما تضمنه كتاب الفيلسوف الكندي «ألان دونو» أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك بكندا «نظام التفاهة: la mediocratie» الصادر في العام 2015 باللغة الفرنسية وترجم إلى عدة لغات، من بينها اللغة الإنجليزية، ونقلته إلى اللغة العربية وقدمت له بشكل تحليلي وموسع وعميق، الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، أستاذة القانون الخاص بجامعة الكويت، وقد صدرت هذه الترجمة في العام 2019 عن دار سؤال ببيروت، من رؤية جديدة لمقاربة تحولات عالم التفاهة الذي نغرق فيه واليات اشتغاله، مما يجعل هذا الكتاب لبنة على درب طويل، لا يسلكه إلا فرسان الشرف، وهو درب يعززه ما لقيه هذا الكتاب من رواج الرواج، وما لقيه من ترحاب، جسدته الترجمات التي اخترق بها لغات وثقافات عديدة في العالم. وبالرغم من حجم المشقة في مطالعته والوقوف على لطائف العمارة الفكرية التي نهض عليها، وبالرغم من حجم التهيب الواجب عند التجاسر على هذه العمارة العنكبوتية الكونية التي زورت كل شيء تقريباً، وأفسدت كل ذي قيمة تستحق الاحترام، فإن أسباب التهيب هي ذاتها أسباب الجسارة، وهذا واحد من أهم الدروس المستفادة من هذا الكتاب. فقد قرات الكتاب فأوجعني ما فيه من ملامسات كنا نستشعرها في حياتنا العامة نتوقف عندها ونمضي ممتعضين، ولكننا لا نبلور لها رؤية فكرية متكاملة مثلما فعل الدكتور آلان دونو، ومصدر هذا الألم أنك وأنت تقرأ هذا الكتاب تجد نفسك تستكمل الصورة، بالتطبيق على الواقع التعس الذي نحياه، فتقول: «إيه والله»!
إن ما تضمنه هذا الكتاب من أفكار تتحدث عن نظام «عالمي جديد» أطلق عليه اسم نظام التفاهة.حيث أصبحنا – حسب رأيه – «نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام، أدى تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على مفاصل الدولة الحديثة في العالم. (....) حيث نلحظ صعوداً للرداءة والانحطاط، فتدهورت متطلبات الجودة، وغيّب الأداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم وأبعد الأكفاء، وتسيّدت شريحة كاملة من التافهين، والجاهلين...».
هذا الكتاب المهم يلفت النظر إلى عدد من العناصر التي أصبحت تنتظم حياتنا وتحاصرنا بالتفاهة، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والصحافة وغيرها، حيث بات التافهون في غالب الأحيان هم من يتسيدون المشهد، ويديرون مفاصله. وبدا وكأن الهدف النهائي هو إسباغ التفاهة على كل شيء وتحويلها إلى قيمة فكرية أو فنية أو اقتصادية، أو حتى سياسية، استناداً إلى منطق ديمقراطية الأغلبية، والتركيز على البهرجة والابتذال والسخافات المنقولة على الهواء. وتكمن خطورة هذا الأمر في سهولته، حيث يمكن تحقيقه بسهولة تامة، في ظل تدفق المعلومات بكثافة وسهولة، ودوران المعلومة والصوة من دون حدود أو غربلة، والانشغال بالتفاصيل اليومية القشرية التافهة. إلا أن هذا الأمر يجب أن يدفع بالضرورة إلى تعميق التحليل وتفصيله لإلقاء الضوء على عوالم الظلام الكثيف الذي يكتنف مداركنا ووعينا في كثير من الأحيان. لأن ما يطلعنا عليه كتاب «نظام التفاهة» يورث في النفس وجعاً وغصة، بما يشير إليه في هذا «النظام» من خطورة وتشعب وفتك بإنسانية الإنسان. لكن هذا الكتاب «المتعب»، لا يحرض مطلقا على الإحباط واليأس في مواجهة نظام التفاهة والتافهين.لأن الرهان هو على الوعي الحر اليقظ الذي يخترق التفاهة. حيث يوجد دائماً من سخروا أنفسهم وأقلامهم وفكرهم لتجاوز التفاهة مبنى ومعنى. وذلك لأن تسطيح «ما نحيا من أجله» ودفعنا إلى احترام ما لا يستحق الاحترام، نظام خطير، مدهش، ليست النجاة من أحابيله سهلة، لكنه، مع ذلك، ليس قدراً مقدوراً علينا أبداً.
ذكرني هذا المقطع من رواية بلزاك «بنت حواء Une fille d'Ève»، بمقال للكاتب الصحفي الفرنسي كلود جوليان، نشره في صحيفة «لوموند ديبلوماتيك» الفرنسية، في بداية الألفية بعنوان: «واجب التقليل من الاحترام»، الذي أكد فيه أن الكاتب الحقيقي يفضل الهروب من الاتّجار والوصولية، ويفضل الانعزال، بعيداً عن الضجيج الذي غالباً ما يشوّش الرؤية والعقل ويشلّ التفكير، عن العيش وسط هذا العالم المضطرب والسكران باهتياجه، «فما تزال فعّالية التأمّل حاضرة في عالمنا رغم فساده وتفاهته: فخلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي شاهدن أمثلة عديدة على ذلك. فمن داخل ديره، عرف الراهب الأمريكي الممتنع عن الكلام، كيف يكشف حجم المشاكل العنصرية، أفضل بكثير من علماء الاجتماع، وبدقة أرفع من المناضلين الذين شاركوا في النضال من أجل الحقوق المدنية، وغالبيتهم تخلّوا بسرعة عن المعركة أو غيّروا من توجّهاتهم.».
دفعني لهذه المقدمة الطويلة ما تضمنه كتاب الفيلسوف الكندي «ألان دونو» أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك بكندا «نظام التفاهة: la mediocratie» الصادر في العام 2015 باللغة الفرنسية وترجم إلى عدة لغات، من بينها اللغة الإنجليزية، ونقلته إلى اللغة العربية وقدمت له بشكل تحليلي وموسع وعميق، الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري، أستاذة القانون الخاص بجامعة الكويت، وقد صدرت هذه الترجمة في العام 2019 عن دار سؤال ببيروت، من رؤية جديدة لمقاربة تحولات عالم التفاهة الذي نغرق فيه واليات اشتغاله، مما يجعل هذا الكتاب لبنة على درب طويل، لا يسلكه إلا فرسان الشرف، وهو درب يعززه ما لقيه هذا الكتاب من رواج الرواج، وما لقيه من ترحاب، جسدته الترجمات التي اخترق بها لغات وثقافات عديدة في العالم. وبالرغم من حجم المشقة في مطالعته والوقوف على لطائف العمارة الفكرية التي نهض عليها، وبالرغم من حجم التهيب الواجب عند التجاسر على هذه العمارة العنكبوتية الكونية التي زورت كل شيء تقريباً، وأفسدت كل ذي قيمة تستحق الاحترام، فإن أسباب التهيب هي ذاتها أسباب الجسارة، وهذا واحد من أهم الدروس المستفادة من هذا الكتاب. فقد قرات الكتاب فأوجعني ما فيه من ملامسات كنا نستشعرها في حياتنا العامة نتوقف عندها ونمضي ممتعضين، ولكننا لا نبلور لها رؤية فكرية متكاملة مثلما فعل الدكتور آلان دونو، ومصدر هذا الألم أنك وأنت تقرأ هذا الكتاب تجد نفسك تستكمل الصورة، بالتطبيق على الواقع التعس الذي نحياه، فتقول: «إيه والله»!
إن ما تضمنه هذا الكتاب من أفكار تتحدث عن نظام «عالمي جديد» أطلق عليه اسم نظام التفاهة.حيث أصبحنا – حسب رأيه – «نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة، تتعلق بسيادة نظام، أدى تدريجياً، إلى سيطرة التافهين على مفاصل الدولة الحديثة في العالم. (....) حيث نلحظ صعوداً للرداءة والانحطاط، فتدهورت متطلبات الجودة، وغيّب الأداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم وأبعد الأكفاء، وتسيّدت شريحة كاملة من التافهين، والجاهلين...».
هذا الكتاب المهم يلفت النظر إلى عدد من العناصر التي أصبحت تنتظم حياتنا وتحاصرنا بالتفاهة، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة والصحافة وغيرها، حيث بات التافهون في غالب الأحيان هم من يتسيدون المشهد، ويديرون مفاصله. وبدا وكأن الهدف النهائي هو إسباغ التفاهة على كل شيء وتحويلها إلى قيمة فكرية أو فنية أو اقتصادية، أو حتى سياسية، استناداً إلى منطق ديمقراطية الأغلبية، والتركيز على البهرجة والابتذال والسخافات المنقولة على الهواء. وتكمن خطورة هذا الأمر في سهولته، حيث يمكن تحقيقه بسهولة تامة، في ظل تدفق المعلومات بكثافة وسهولة، ودوران المعلومة والصوة من دون حدود أو غربلة، والانشغال بالتفاصيل اليومية القشرية التافهة. إلا أن هذا الأمر يجب أن يدفع بالضرورة إلى تعميق التحليل وتفصيله لإلقاء الضوء على عوالم الظلام الكثيف الذي يكتنف مداركنا ووعينا في كثير من الأحيان. لأن ما يطلعنا عليه كتاب «نظام التفاهة» يورث في النفس وجعاً وغصة، بما يشير إليه في هذا «النظام» من خطورة وتشعب وفتك بإنسانية الإنسان. لكن هذا الكتاب «المتعب»، لا يحرض مطلقا على الإحباط واليأس في مواجهة نظام التفاهة والتافهين.لأن الرهان هو على الوعي الحر اليقظ الذي يخترق التفاهة. حيث يوجد دائماً من سخروا أنفسهم وأقلامهم وفكرهم لتجاوز التفاهة مبنى ومعنى. وذلك لأن تسطيح «ما نحيا من أجله» ودفعنا إلى احترام ما لا يستحق الاحترام، نظام خطير، مدهش، ليست النجاة من أحابيله سهلة، لكنه، مع ذلك، ليس قدراً مقدوراً علينا أبداً.