الكل يعلن أنه ديمقراطي وحداثي ومدني ووطني وديمقراطي وتقدمي يؤمن بالدولة المدنية، دولة الحرية والعدالة والمواطنة المتساوية والتسامح، إلى آخر تلك السلسلة من الشعارات والعبارات والكلمات التي أفرغت من المحتوى، وأفض استخدامها هدراً للغة وضياعاً للمعنى. فأصبحت خطاباتنا "أو أغلبها" متشابهة حتى أننا لا نكاد نعثر على من يقول: "إن الديمقراطية بدعة أو أنها لا تناسبنا" مثلما كان يُقال صراحة قبل عدة عقود.
الكل يعلن أنه ديمقراطي وحداثي ومدني، على صعيد الشعار والخطاب، ولكن الأغلبية "تقريباً" لا علاقة لها بالديمقراطية، أصلاً وفصلاً. لأنها لا تؤمن بها حقيقة، ولا تتعامل مع الآخرين على أساسها. فحتى الجماعات المتطرفة والعنيفة والفوضوية والطائفية، تعلن أنها ديمقراطية، "تعمل من أجل مجتمع ديمقراطي مدني حداثي". فضاع بذلك المعنى، وضاعت المفاهيم والقيم، وتحولت الديمقراطية إلى مجرد فذلكة لغوية، أو لعبة غير مسلية. فحتى معنى تلك الكلمات، ابتعد لغوياً تماماً، عن: "أن معنى الشيء: أي مِحْنتُه وحاله التي يصير إليها أمره. لأن معنى الكلام ومقصده، "هو العناء لاقترانه بمحنة البحث، عما يعانيه الإنسان من مخاض عقلي لإخراج المعاني"! فأي معنى إذن لأمر فقد معناه المخصوص، حتى أصبح استخدامه أقرب إلى الهذيان؟!
ولذلك أصبح اليوم بالإمكان طرح السؤال التالي من دون تردد كبير: "من هو غير الديمقراطي عندنا مثلاً؟ ما هو الحزب غير المدني وغير الحداثي وغير الديمقراطي؟ إذا كانت الأحزاب الدينية والطائفية الأكثر تطرفاً، تعلن أنها ديمقراطية حداثية مدنية، وإذا كان الأشخاص الأكثر فاشية وتعديا على الحرية وعلى إنسانية الإنسان، يعلنون صباحا مساء، أنهم مع الحرية ومع الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان؟!!
إن ضياع المعنى هنا، بات يشكل حالة من الإسهال اللغوي والفكري والسياسي معا، يقوم على منطق الدعاية غير الرشيد، والتسويق غير العاقل للهيمنة على الفضاء العام، بشتى الطرق، فلا يُترك أمرٌ موصوفٌ بالإيجابية، إلا وتم تضمينه ضمن مدونة الخطاب المسخ.
صحيح أن الديمقراطية هي سبيلنا الحتمي والوحيد لبناء دولة المواطنة، ولحل مسألة المواطنة، وصحيح أيضاً أن هناك اتفاقاً عاماً على أن الديمقراطية تشكل أرضية خصبة لنمو ثقافة المواطنة، إلا أن الادعاء الديمقراطي لأحزاب وجماعات غير ديمقراطية -كما هو سائد في الخطاب- من شأنه تمييع الموضوع وتحويله إلى مجرد ثرثرة ادعائية، مما يفضي في النهاية إلى التشكيك في قيمة المعنى ذاته.
صحيح أيضاً أننا من دون اعتماد جدي وحاسم لخيار الديمقراطية كحتمية لا مناص منها، سوف نكون خارج التاريخ، وسوف نشهد المزيد من الانفجارات الاجتماعية السياسية والمزيد من جولات عدم الاستقرار، ولكن صحيح أيضاً أننا لا يمكن أن نبني الديمقراطية من دون وجود ديمقراطيين، ومن دون ثقافة ديمقراطية تعيد للمعنى قيمته. ومن هنا يجب على النخب الفكرية والسياسية وقوى المجتمع المدني الديمقراطية "حقيقة لا مجازاً"، العمل على ترسيخ قيم الديمقراطية قولاً وفعلاً، فكراً وممارسةً، في دولة القانون والحرية والمواطنة. وهذا يقتضي أيضاً وضع الآليات التي تمنع حدوث أي انتكاسة أو انتهاك للديمقراطية وللمواطنة معاً، مثل "التقليل من مواطنة الآخرين، وامتهان كرامتهم ومعتقداتهم، باسم حرية التعبيرالتي تحميها الديمقراطية نفسها، ومثل انتشار الصور النمطية عن الآخر،وتجاوز القيم والمبادئ الديمقراطية، ونشر التباغض والكراهية بين مكونات المجتمع، أو السماح للأفراد والجماعات والخطابات المتطرفة بالانتشار. وباختصار لابد من استعادة المعنى وإنقاذ المعنى من الضياع!
* همس:
أسرّ بالكلمات، لحظة الرحيل في ساحة البوح:
في أي مرسى أحط الرحال بلا مرسى؟
وعلى أي شاطئ أرسو غير شاطئ الأحلام؟
مع الفراش المجنح، أقطف الأقحوان،
تائهاً في المعنى، أبحث عن نافذة.
قلب يفر من الموت المخادع،
ويهجره الصدى المسافر.
{{ article.visit_count }}
الكل يعلن أنه ديمقراطي وحداثي ومدني، على صعيد الشعار والخطاب، ولكن الأغلبية "تقريباً" لا علاقة لها بالديمقراطية، أصلاً وفصلاً. لأنها لا تؤمن بها حقيقة، ولا تتعامل مع الآخرين على أساسها. فحتى الجماعات المتطرفة والعنيفة والفوضوية والطائفية، تعلن أنها ديمقراطية، "تعمل من أجل مجتمع ديمقراطي مدني حداثي". فضاع بذلك المعنى، وضاعت المفاهيم والقيم، وتحولت الديمقراطية إلى مجرد فذلكة لغوية، أو لعبة غير مسلية. فحتى معنى تلك الكلمات، ابتعد لغوياً تماماً، عن: "أن معنى الشيء: أي مِحْنتُه وحاله التي يصير إليها أمره. لأن معنى الكلام ومقصده، "هو العناء لاقترانه بمحنة البحث، عما يعانيه الإنسان من مخاض عقلي لإخراج المعاني"! فأي معنى إذن لأمر فقد معناه المخصوص، حتى أصبح استخدامه أقرب إلى الهذيان؟!
ولذلك أصبح اليوم بالإمكان طرح السؤال التالي من دون تردد كبير: "من هو غير الديمقراطي عندنا مثلاً؟ ما هو الحزب غير المدني وغير الحداثي وغير الديمقراطي؟ إذا كانت الأحزاب الدينية والطائفية الأكثر تطرفاً، تعلن أنها ديمقراطية حداثية مدنية، وإذا كان الأشخاص الأكثر فاشية وتعديا على الحرية وعلى إنسانية الإنسان، يعلنون صباحا مساء، أنهم مع الحرية ومع الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان؟!!
إن ضياع المعنى هنا، بات يشكل حالة من الإسهال اللغوي والفكري والسياسي معا، يقوم على منطق الدعاية غير الرشيد، والتسويق غير العاقل للهيمنة على الفضاء العام، بشتى الطرق، فلا يُترك أمرٌ موصوفٌ بالإيجابية، إلا وتم تضمينه ضمن مدونة الخطاب المسخ.
صحيح أن الديمقراطية هي سبيلنا الحتمي والوحيد لبناء دولة المواطنة، ولحل مسألة المواطنة، وصحيح أيضاً أن هناك اتفاقاً عاماً على أن الديمقراطية تشكل أرضية خصبة لنمو ثقافة المواطنة، إلا أن الادعاء الديمقراطي لأحزاب وجماعات غير ديمقراطية -كما هو سائد في الخطاب- من شأنه تمييع الموضوع وتحويله إلى مجرد ثرثرة ادعائية، مما يفضي في النهاية إلى التشكيك في قيمة المعنى ذاته.
صحيح أيضاً أننا من دون اعتماد جدي وحاسم لخيار الديمقراطية كحتمية لا مناص منها، سوف نكون خارج التاريخ، وسوف نشهد المزيد من الانفجارات الاجتماعية السياسية والمزيد من جولات عدم الاستقرار، ولكن صحيح أيضاً أننا لا يمكن أن نبني الديمقراطية من دون وجود ديمقراطيين، ومن دون ثقافة ديمقراطية تعيد للمعنى قيمته. ومن هنا يجب على النخب الفكرية والسياسية وقوى المجتمع المدني الديمقراطية "حقيقة لا مجازاً"، العمل على ترسيخ قيم الديمقراطية قولاً وفعلاً، فكراً وممارسةً، في دولة القانون والحرية والمواطنة. وهذا يقتضي أيضاً وضع الآليات التي تمنع حدوث أي انتكاسة أو انتهاك للديمقراطية وللمواطنة معاً، مثل "التقليل من مواطنة الآخرين، وامتهان كرامتهم ومعتقداتهم، باسم حرية التعبيرالتي تحميها الديمقراطية نفسها، ومثل انتشار الصور النمطية عن الآخر،وتجاوز القيم والمبادئ الديمقراطية، ونشر التباغض والكراهية بين مكونات المجتمع، أو السماح للأفراد والجماعات والخطابات المتطرفة بالانتشار. وباختصار لابد من استعادة المعنى وإنقاذ المعنى من الضياع!
* همس:
أسرّ بالكلمات، لحظة الرحيل في ساحة البوح:
في أي مرسى أحط الرحال بلا مرسى؟
وعلى أي شاطئ أرسو غير شاطئ الأحلام؟
مع الفراش المجنح، أقطف الأقحوان،
تائهاً في المعنى، أبحث عن نافذة.
قلب يفر من الموت المخادع،
ويهجره الصدى المسافر.