انتشرت في السنوات الأخيرة، ثقافة الثرثرة والادعاء، فامتلأ الفضاء بالأدعياء المثرثرين: يتحدثون في كل شيء، في الفلسفة والفكر والسياسة وعلم الكلام وآخر صرعات الموضة والتاريخ والجغرافيا، ومجلس الأمن وأزمة كوريا الشمالية والحرب التجارية بين الصين وأمريكا، والحرب الليبية وأوضاع جمهوريات البلطيق، يدعون بأنهم أعلم الناس، أحاطوا بكل شيء علماً، لهم رأي في كل شيء، فهم كتاب ومفكرون ومعلقون، بل إن بعضهم صار يظهر في القنوات الفضائية برتبة خبير استراتيجي!!

هنالك حالات ونماذج كثيرة، تستفزك يومياً، بتلك الوقاحة وبذلك الادعاء إلى درجة تصيبك بالسأم والحنق أوالقرف.... يتحدثون يثرثرون، يحاولون استعراض جهلهم المبين غصباً عنك. ويصرون على إيهامنا بأنهم يعلمون ما لا نعلم، ويعرفون ما لا نعرف، ويدركون ما لا ندرك، ويستنتجون ما لا يستنتجه أحد من الأوائل او اللاحقين...

تتصفح الصحيفة فيصفعك الادعاء، تتصفح المجلة فيؤلمك الادعاء، وتستمع إلى الإذاعة أو تشاهد التلفزيون، فيجتاحك طوفان الثرثرة والحكمة المزيفة والأبوية القاتلة. الجميع يتكلمون، يثرثرون.... يتحدثون في كل شيء كلاماً فارغاً يغرقوننا به. وعندما تحاول إقناعهم بالتلميح وبالأدب وبالإشارة بأنهم جهلة في هذا الميدان أو ذاك. وأنهم قد يكونون من المتبحرين في وجه من وجوه المعرفة أو الحياة أو الاختصاص المهني، ولكن لا يمكنهم أن يحيطوا بكل شيء علماً، من دون جدوى.

وبسبب كثرة مثل هؤلاء الأدعياء، أصبحنا نتمنى أن نجد من يقول: لا أعرف. لا علم لي. لا أدري. الله أعلم.. ولا شك أن افتقاد المجتمع إلى مثل هؤلاء المتعففين عن الثرثرة و«الهرار» الادعائي، يدل على أننا نعاني حالة من الاختلال النفسي، يؤدي إلى الكذب والغرور والاستعراض الهوائي.

ووسط هذه الأكوام من الهذيان والإسهال اللغوي والثرثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، صار الفكر ضائعاً والإبداع تائهاً. وامتلأت الساحات بالمتطفلين وأنصاف المثقفين، والأدعياء والمهرجين، وتساوى الإبداع بالحذاء. وذلك وجه آخر من وجوه خيباتنا.

* همس:

أقف على شفا المجهول وحيداً،

والمعنى في آخر الطريق.

الأسئلةِ أظافرها موحشة،

أطرق على باب النسيان

مترنحاً بلا نياشين،

كطائر يبحث

عن غيمة أخيرة.