د . حبيب النامليتي

قال تعالى: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)» «الزمر»

الإنسان معرض للوقوع في الخطأ، وليس بمنأى عن الذنب، هكذا خلقه الله؛ ينسـى ويستعجل، قال صلى الله عليه وسلم : «كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ»، لكن المؤمن كلما وقع في الذنب اشتاق للتوبة والرجوع إلى الله فاستغفر لذنبه ولم يصـر على ما فعل، وعلِم بأن الله يحب التوابين، وأن ذنوبه مهما تعاظمت وبلغت ما بلغت فإنه إذا تاب تاب الله عليه.

وكلنا يعلم حال ذلك الرجل الذي بلغ من الإجرام حتى سفك تسعاً وتسعين نفساً من الدماء المعصومة، فتاقت نفسه إلى التوبة فوقع بين يدي رجل لا علم له، فقنَّطه من التوبة فأتم به المائة، أيُّ فقهٍ هذا الذي يودي بصاحبه إلى الهلاك، ويتسبب عليه بالموت! لم يكن عنده علم بدين، ولا إدراك لمصلحة دنيا، ثم لما ذهب للعالم الرباني قال له: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! فلما صدق في توبته تاب الله عليه.

 قال اللهُ تعالَى في الحديث القدسي: (يا ابنَ آدمَ، إنك ما دعَوتَني ورجَوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ لو بلغَتْ ذنوبُك عَنانَ السماءِ، ثم استغْفَرْتني، غفرتُ لك، يا ابنَ آدمَ إنك لو أتيتَني بقُرابِ الأرضِ خطايا، ثم لَقِيتَني لا تشركُ بي شيئًا، لأتيتُك بقُرابها مغفرةً).

لذلك يقول الله لعباده: (لا تقنطوا من رحمة الله)، أي: لا تيأسوا، فهذه رسالة لكل من أسرف وتجاوز الحد وعصـى الله تعالى بأن يبادر بالتوبة والرجوع إلى الله سبحانه، وفي الحديث ما يقرر هذا المعنى: (إنَّ عَبْداً أصابَ ذَنْباً؛ فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ فاغْفِرْ لِي، فقالَ رَبُّهُ: أعَلِمَ عَبْدِي أنَّ له رَبّاً يَغْفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ ما شاءَ اللَّهُ ثُمَّ أصابَ ذَنْبًا، فقالَ: رَبِّ أذْنَبْتُ، فاغْفِرْهُ؟ ...) متفق عليه فيغفر له الله.

والتوبة لها شروط لا بد من توافرها؛ أول هذه الشـروط: أن تكون التوبة خالصةً لله تعالى، لا يريد بها شيئاً من أمور الدنيا، والندم على ما وقع فيه؛ فلا يفتخر به أو يتحسـر على تركه، والإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه؛ كما قيل: أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ، وإذا كان الذنب متعلقًا بحقوق العباد عليه إرجاع الحقوق لأهلها.

ثم أمر الله بالإنابة بالقلوب والإسلام بالجوارح، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ)، فقدِّمْ لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن، (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسـْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) على ما فرطت في جنب الله: أي في حقه الواجب علي، (أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)، فيقول الإنسان: هل لي عودة إلى الدنيا فأتوب، فيقال له: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) قد جاءتك المواعظ والبراهين فتركتها ولم تنتفع بها، فالواجب على الإنسان المبادرة للتوبة، قبل الندم، نسأل الله الغفور أن يغفر لنا ويتجاوز عنا.