رائد البصري
قيل إن فتى شاباً أتى النبي الأكرم أمام جمع من أصحابه فـقـال: يا رسول الله ائذن لي بالزنا، فأقبل عليه القوم فزجروه. قالوا: مه؟ أي مستنكرين. فقال: ادنه، فدنا قريباً، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس، يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يـحـبـونـه لبناتهم. قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فـداءك قـال: ولا الناس يحـبـونـه لأخواتهم. قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ولا الناس يحـبـونـه لـعـمـاتهم قال: أفتحبه لخالتك؟
قال: لا والله جعلني الله فداءك قال: ولا الناس يحـبـونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغـفـر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء». من الأخطاء التربوية الشائعة التي يقع فـيـهـا الوالدان إهـمـال فنون أو مـهـارات الحـوار داخل الأسـرة عـامـة، ومع الأبناء خاصة، فـيـسـود البيت جـو غـريب مليء بأنواع شتى من الحوارات المرضية غيـر السوية، كتلك الحوارات الباردة التي تتم بطريقة رسمية جافة وتغيب معها روح الجلسـات الودية عن البـيـوت، أو تلك الحـوارات الصـارخـة والتي يعلو فـيـهـا الصراخ وترتفع فيها الأصـوات وينعـدم الاستماع والإنصات، فتغيب عن البيت روح الود والوئام الأسري، أو كتلك الحـوارات النارية القاسية، فإذا سمع الأب من ابنه شيئاً مزعجاً نفر منه بسرعة واندفاعية وعاجله بألفاظ قاسية مثل: أعوذ بالله، قبحك الله، فنبني بذلك مصدات عازلة عن الحوار بين الآباء والأبناء. وفي هذه الحادثة يعلمنا النبي أبرز فنون ومهارات الحوار الفـعـال مع الأبناء وذلك من خلال ما يأتي:
1- تهيئة المناخ الحر الراقي الذي يسمح بمثل هذه المصارحة الجـريئـة على الملأ، حتى إن الفتى يصـرح بـحـبـه للزنا، بل يطلب من رســول الله إباحته له.
2- القـرب من الأبناء والتـفـاعـل مـعـهم والاستماع لمشاكلهم والإنصات الجيد لهم، وإتاحة الفرصة لهم لإبداء آرائهم وطرح رؤيتهم لمخـتلف المشاكل المحيطة بهم وتأمل قـوله في الحـديث: (ادنه، فدنا).
3- احترام مشاعر وأفكار الأبناء، مهما كانت متواضعة أو غريبة والانطلاق منها إلى تنميتها وتحسين اتجاهها، أو تعديل مسارها (أتحبه لكذا وكذا).
4- الهدوء واحتضان الابن في أثناء الحوار، والتحكم في المشاعر والانفعالات واعتماد أسلوب الإقناع والابتعاد عن أسلوب القمع وتوجيه الأوامر والملاحظات.
5- تـذكـر في أثناء الحـوار أن كل إنسـان معرض للخطأ، حتى لا يمتنع الأبناء عن نقل مـشكلاتهم إلى الأهل خـوفـا مـن السخرية أو العقاب.
6- حسن الإصغاء للأبناء والاسـتـمـاع لمشكلاتهم، ما يتيح للآباء مـعـرفـة المعوقات والمشاكل التي تحول بينهم وبين تحقيق أهدافهم وبالتالي وضع الحلول المناسبة لها.
7- رفض وسائط المحيطين والعمل على تحـيـيـدهـم وعـدم التـأثر برأي وأحكام ومعايير الآخرين.
8- البعد عن نقاط الخلاف والبداية من نقـاط الالتـقـاء، مع اسـتـخـدام أسلوب الإقناع والابتعاد عن أسلوب التخطيء وتجنب أسلوب الصدمة الحوارية، فلم يذكر له النبي مـبـاشـرة أن الزنا من الكبائر، وإنما يقـول له: إذا كنت تحب الزنا ببنات الناس فـهـل تحب أن يزني الناس بأمك وبناتك؟
9- اعتماد أسلوب الإقرار، وهو من أفضل مهارات التفاوض، فتجعل الآخر يقر بالرد «نعم» أو «لا» حتى تصلا في نهاية الحوار إلى نتيجة موحدة.
10- الصـبـر على مـدة وطول الحـوار وأهمية الملامسة والدعاء من الرسول للفتى وكسب ثقـة الأبناء، وبث روح الود والحب المتبادل وتدبر تكرار مقولة الفتى جعلني الله فـداءك وقوله في الحديث: «فوضع يده عليه».
وخلال ذلك كله يجـب بث رسـالة حـبك لأبنائك وحرصك على مصالحهم، وبذلك ينجح الحـوار ويؤتي ثمــاره، وانظر إلى النجاح الباهر للمهمة والحوار الذي حققه النبي في هذه الحادثة ثم تدبر توبة الفتى على يديه.
إنها رسالة لطيفة إلى الوالدين أن يراعيا هذه الأدبيات التربوية للحـوار مع الأبناء قبل أن يـتـضـخم الأمـر وتكبـر الأخطاء وتتسع الفـجـوة بين الآباء وأبنائهم فـلا يجدون لها علاجاً ولا يستطيعون لها رأباً.