أميرة صليبيخ


أحب قراءة سيرة المؤثرين والعظماء ممن تركوا بصمتهم وشقوا طريقهم نحو الخلود، ودائماً ما أبحث عن الظروف التي نشأوا فيها وأتلمّس تأثير والديهم وأسرتهم عليهم، لإيماني التام بأن كل شخص قد أصبح ما هو عليه اليوم بسبب ما عاشه في طفولته. فإن ذاق التعاسة وتعرض للاضطهاد والتمييز مثلاً، فقد يكبر ليكون عدوانياً قاسياً يسكب مرارته على الآخرين، والعكس صحيح، فكل وعاء بما فيه ينضح. والتاريخ مليء بمثل هذه الشخصيات.

ومن الأشخاص الذين أحببتهم وحفظت اسمهم منذ الصغر لما لها من وقع مميز كانت الكاتب والمسرحي والشاعر «هانس كريستيان أندرسون» الذي لوّن طفولتنا بالعديد من القصص الخرافية المبهرة سواء المكتوبة أو المرئية.

ولد هانس لأب إسكافي وأم خادمة، وعاشوا في فقر مدقع. كان والده رغم فقره مهتماً بالأدب والفن وقد نقل هذا الحب لابنه. كان الأب يسرد على هانس قصصاً قبل النوم حتى يشغله عن واقعه المرير، فيأخذه من يديه للتجوال والتنقل في عوالم الجن والخرافات والأساطير، كما كان يحرص على اصطحابه للمسرح، وخصص له زاوية في غرفة المنزل الوحيدة ليصنع له مسرح دمى متحركة يمارس فيها شغفه.

فكانت هذه التجارب تقدح مخيلة هانس وتقوي موهبته الإبداعية التي ستظهر لاحقاً في الكتابة بكل أنواعها من قصص موجهة للكبار والأطفال، وشعر ومسرحيات وأدب رحلات وغيرها.

المحزن أن هانس كان منبوذاً في المدرسة. فبالإضافة إلى فقره كان غريب الأطوار ذو مظهر مضحك، وهو ما عرضه للسخرية والتنمر طوال حياته وكان سبباً في عدم زواجه وهجرته من المنطقة التي عاش فيها.

المدهش في قصته أنه بعد أن بدأت موهبته الأدبية في الظهور، استرعى اهتمام ملك كوبنهاغن وجعله من المقربين منه، وبدأت أعماله تترجم وتنتشر حول العالم ونال شهرة واسعة خصوصاً لدى الأطفال.

فمن منا لا يتذكر عقلة الإصبع وبائعة الكبريت، والفرخ القبيح وملكة الثلج وغيرها من حكايات أثرت طفولتنا وملأتها بهجة.

اليوم يعتبر هانس، أحد أعظم الروائيين في العالم وشاعر الدنمارك الأول، وقد أطلقت جائزة سنوية تخليداً له تضاهي نوبل للأدب موجهة لأدب الأطفال. بلغ عدد أعماله أكثر من 3350 عملاً وترجمت إلى 125 لغة واشتهرت بأنها محاولات لإسعاد القراء، وما تزال شركة ديزني تقتبس من حكاياته وتعتبرها مادة خصبة لتحولها لأفلام.

الخلاصة، أن هانس لم يكن سيصل إلى هذا النجاح لو لم يبذر فيه والده البذرة الأولى. فحاولوا دائماً أن تحسنوا اختيار ما ستغرسونه في أبنائكم لأنه سيشكل حياتهم للأبد.