أميرة صليبيخ


كثيرون يمرون بحياتنا كعابرين، لا يتركون بصماتهم لا على القلب ولا على الذاكرة وكأنهم لم يكونوا. هؤلاء ليس لهم أي وزن ولا يهم وجودهم أو غيابهم، كصفر على الشمال. وفي المقابل، هناك من يترك فيك أثراً أعمق من أي شخص مقرب، يلامس أعماقك ويتخذ في قلبك مقعداً كبيراً. هؤلاء قلة، ولكن أثرهم في حياتك كوشم لا يزول لأنهم استطاعوا أن يلجوا إلى أعمق نقطة في داخلك بحسن أخلاقهم معك.

في العادة، نحن من نضع الناس في قوالب معدة مسبقاً ونصنفهم لفئات في قلوبنا. فالوالدان والأخوة والأصدقاء والأحبة يجلسون على القمة، والبعض يبقون مذبذبين ما بين الأعلى والأسفل بحسب مواقفهم معك، وهناك الجالسون في الخانة السفلى من القلب، كما يوجد من هم دون المنطقة السفلى. والناس تتفاوت مواقعها في قلبك من بين الأعلى والأدنى، ولكن بعضهم يظهر في حياتك دون سابق إنذار ليختار لنفسه موضعاً عالياً لم يكن مخططاً له. هؤلاء أجدر بمحبتنا لأنهم لم ينتظروا منا أي شيء مقابل مواقفهم الإنسانية معنا.

من القابعين في ذاكرتي، عامل آسيوي كان يعمل معي في إحدى الجهات رآني ذات يوم أبكي ذات موقف مرير تعرضت فيه للظلم. بقي يرقبني من بعيد ليطمئن علي، ولم أدرك ذلك إلا عندما زارني في المكتب، لم يقل لي شيئاً، ولكنه واساني بكوب قهوة. ففهمت ما يقصده. مازلت أتذكره حتى اليوم وابتسم من أعماقي. كان موقفاً لم يكلفه شيئاً لكنه يعني لي الكثير.

أيضاً أتذكر إحداهن، حيث كانت مشاركة معنا في أحد البرامج، حينئذ تعرضتُ لمضايقات كثيرة. أرادوا إقصائي بكل الطرق وألّبوا بقية الفريق ضدي. كانت الوحيدة التي آزرتني وقالت: «لا عليك، أنا أعرفك جيداً!» كانت كلماتها بلسماً لايزال حتى اليوم يمنحني السكينة والدفء. وكم هو جميل أن تجد من يؤمن بك ويرى جوهرك النقي بالرغم مما يحيكه الآخرون ضدك.

أنت في الحياة من يحدد مقامات الناس في حياتك وفقاً لمواقفهم معك وليس وفقاً لمشاعرك تجاههم -استثنِ الوالدين والإخوة من هذا الحديث- فكثيرون وضعناهم منزلاً ما دون الأسفل لكن برهنت المواقف بأنهم أولى بالمحبة والتقدير. وآخرون وضعناهم مقاماً عالياً دون أن يبذلوا مجهوداً من أجلنا، وهم في الحقيقة يستحقون أن يكونوا في الخانة السفلى تماماً كالدرج الأخير في خزانة الملابس، ذاك الذي تركله بقوة حتى تغلقه!