د. سامح بدوي


شكلت الرقمنة مؤخراً اهتمام الكثير من التربويين في مجتمعاتنا، حيث اعتبرها البعض إحدى آليات تطوير التعليم وإدخال التقنية في قاعة الدرس؛ ولكنها في الواقع اختراق لنظم التعليم واختزال كلاسيكيته التي تؤمن بالتعليم المتجانس داخل البيئة الصفية، والتي يشكل العنصر البشري قوامها بأدواته ورتابته في الإلقاء والنقاش وتقديم وتلقي المعرفة، رتابة تدعم التعلم ذا المعنى القائم على الخبرات المباشرة وإعمال الحواس وإثارة التفكير والتحفيز، والاستقصاء المعرفي وتبويب وتخزين المفاهيم بطريقة طبيعية في عقل المتعلم وإحداث انسجام وتناغم في بنائه المعرفي واستخلاص المعارف وتوظيفها في مواقف حياتية بصورة دقيقة، نعم كلاسكية ولكنها تنبي العقول وتعيد التركيبة السلوكية للمتعلم وتضعها في المسار الصحيح اعتماداً على توافقه وسط مجموعة الأقران بصورة نمطية ومتدرجة داخل بيئة الصف، اعتماداً على أنماط التعليم وإستراتيجياته الحديثة والمتعددة.

وهذا لا يقتضي رفض الرقمنة بالكلية أو توظيف التقنية في قاعة الدرس، فقد نرفض توقيتات التطبيق وآليته فنحن لسنا بحاجة إليها في مراحل التعليم المبكر، لأن أطفالنا بحاجة إلى فصول دراسية ومجتمعات تعلم حقيقية تعتمد على أدوات تعليم تقليدية كالقلم والدفتر والممحاة، والكتابة اليدوية وفنون الإلقاء والتحدث والنشاطات اللامنهجية والركض وممارسة الرياضة والتنافس في الفرق وفي الفصول، بحاجة إلى تعلم عبق تراثنا وسلوكاتنا، ففي تلك المرحلة نبني الهوية العربية والإسلامية والأكاديمية ونصقل قدراتهم بالمهارات التي تسهم في تكوين وبناء شخصية متكاملة ومتوافقة مع نفسها ومع الآخر.

يمكن أن نتفهم أهمية تلك الرقمنة في المراحل المتقدمة للتعليم لطلاب الجامعات والدراسات العليا، ولكن لا نتفهم أهميتها في المراحل المبكرة والصفوف الأولية في التعليم داخل مجتمعاتنا؛ لذا لا ينبغي أن تكون هدفاً تسعى لتحقيقه المدارس الرائدة أو ميزة تنافسية فيما بينها، ولا يجب وضعه ضمن أدوات تقييم المدراس؛ لأنه لا يمثل قيمة حقيقية للتعلم في تلك المراحل بل هو باعث للتشتت وعدم الانتباه، وهناك العديد من الدراسات التي أكدت ذلك وارتأت أهمية التعليم النمطي مقارنة بالرقمنة والحوسبة واللوحات الرقمية المختلفة، وخاصة بعد اختفاء الكتابة اليدوية في العديد من الدول الرائدة في التعلم وانقراضها؛ فهذه المجتمعات أصدرت قوانين لإلغاء إلزامية تعليم الكتابة اليدوية في مدارسها ظناً أن هذا هو التطوير، ولكن النتائج كانت أسوأ مما توقع الكثير حيث انخفض مستوى الانتباه والتركيز لدى الأطفال، وتدهور النمو الاجتماعي والعاطفي، ودعم السلوك العدواني والتوحدي، الأمر الذي استدعى انتباه تلك المجتمعات وتراجعها عن التوسع في الرقمنة داخل الصفوف الدراسية والعودة مجدداً إلى التعليم الكلاسيكي، وأدرك العالم أخيراً أن الرقمنة بحاجة إلى كلاسيكية التعليم، وأن التعليم في غنى عنها.