كتبه د. سامح بدوي


قابلته مراراً حين رأيت أطفالاً نادراً ما تبتسم ومستحيل أن تنظر في أعينهم، لا يتحدثون يعيشون سنوات ولا نسمع نبرة صوتهم، وحين ينطق بعضهم يردد كلمات معينة طول الوقت، لا يلتفتون حين تعلو أصواتنا بأسمائهم، كما أنهم لا يعرفون أمهاتهم وذويهم، رغم أن الكثير منهم قد يدرك ما حوله، لكنهم فضلوا العزلة والانصراف عن المحيطين، يكررون أفعالاً بأنماط ثابتة، يرفضون العناق ولا يهتمون بمجريات الأمور حولهم، غير قادرين على بناء علاقات اجتماعية مع آخرين، يعشقون الروتين ويرفضون التغيير رفضاً قاطعاً.

أطفال لا يستطيعون ارتداء أحذيتهم، ولكنهم قد يكونون مبدعين، منهم حالات يمكنها أن تسرد كل العواصم والمدن حول العالم، بعضهم يقرأ الخرائط ويدرك التاريخ الجغرافي للموانئ والعواصم المختلفة، ويرتب عشرات المكعبات في ثوانٍ معدودة بمهارة فائقة الدقة والسرعة، أعراض لم أدرسها باستفاضة في مراجعي الجامعية ولكنني انبهرت بها، وقررت أن أعرفها عن قرب في مرحلة الدكتوراه، ولكنني للأسف عرفت القليل عن هذا اللغز الذي حير العلماء، ومازال الكثير منهم يجهل خصائصه وأعراضه، وأسبابه التي مازالت غامضة فكل ما يعرفه العالم عنه: أنه اضطراب نمائي يصيب الطفل في الثلاثة إلى الخمسة أعوام الأولى من عمره، منه الكلاسيكي أو التقليدي وهو الأصعب، ومنه الأقل حدة -طيف التوحد- بنسبة انتشار غير قليلة ومذبذبة بين المجتمعات حسب سبل وآليات التشخيص، فهو يصيب طفلاً واحداً من كل 160 طفلاً حول العالم بنسبة أربعة أضعاف لدى الذكور عن الإناث.

رصد الباحثون بعض الأعراض والسلوكيات، ولكنهم فشلوا في تقديم الحلول المثالية لتلك الحالات، باستثناء برامج سلوكية ضحلة لم تقدم معالجات حقيقية أو ثقافة التعامل مع التوحديين والكشف عنهم، وما يحزنني أننا متشبعون بجرأة التشخيص والجهل بأدواته ومقاييسه، والخلط بينه وبين العديد من الإعاقات كالبكم الاختياري وغيره من الاضطرابات التي تتشابه مع أعراضه، والضحية في كل الأحيان الأطفال وأسرهم، التي ينبغي ألا تعتمد على مراكز غير متخصصة، ولا تستمع لأصحاب الرؤى التشخيصية السريعة المبنية على اجتهادات.

جميعنا يعرف كم معاناة الأسرة وخاصة الأم التي ننصحها دائماً بالاهتمام بالتشخيص الدقيق من جهات عدة، واليقين بأن كل طفل توحدي حالة مستقلة بذاتها قابلة للتعلم في الكثير من الأحيان بل والإتقان والتفوق، فهناك العديد من التوحديين حصلوا درجات متقدمة بفضل أمهات تابعت وتعبت ولم تستسلم -عرفتهم وتطبقت عليهم العديد من البرامج- فإيمان الأم بقدرات طفلها باعث لتقدمه. وأخيراً علينا أن نعلم جميعاً أن هذه الحالات محنة ومنحة من الله تعالى.