م. صبا العصفور
عادت الفتاة من المدرسة سعيدة وبيدها شهادتها التي تحمل تقدير «جيد جداً»، وسلّمتها لأمها أمام خالتها، تبسمت الأم واحتضنت ابنتها وأثنت على تقديرها أمام اندهاش الخالة، التي همست لأختها: كيف تسعدين بهذه الدرجة؟ فأنا غضبت من ابنتي وعاقبتها لأن درجتها انخفضت وتراجع ترتيبها من الأولى على الفصل إلى الثانية، فأنا أريدها الأولى دائماً! وبنفس الابتسامة التفتت إلى الخالة لتزيل ذلك الاندهاش قائلة: ابنتي لديها بعض الصعوبات في التعلّم، وكان معدل درجتاها السابقة «جيداً»، فبذلت جهوداً مضنية لتحسين مستواها الدراسي وهي الآن تحصد نتيجة ذلك التعب، فلا يهمني ترتيبها في الفصل أو المدرسة.
يعتمد منهج التنافسية في أغلب الأماكن ابتداءً من مرحلة الروضة إلى أعلى مناصب السلّم الوظيفي على مقارنة الأفراد بين بعضهم البعض، وبالرغم من إيجابيات هذا المبدأ فإنّ من سلبياته خلق روح غير شريفة في المنافسة، فتظهر الصراعات بين الأقران في مقاعد الدراسة والعمل، وتُحاك المؤامرات والدسائس بينهم ليحرز أحدهم الفوز على حساب الآخر، بغض النظر عن التبعات التي قد تؤدي إلى خسارة الأصدقاء أو الأجواء السلبية في المكان. قال تعالى في كتابه الكريم: «خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ» وهو الفوز النهائي لدرجة الأبرار لنيل أعلى مراتب الجنّة، ولكن في الجنّة هناك متسع للجميع ولن تكون حكراً لأحد ما داموا يتنافسون في البرّ، فالمنافسة هنا لا تأتي لإنسان بارّ مقابل البّار الآخر، ولكن هي تَنافُس لأداء نفس الشخص اليوم مقابل الماضي ليسعى للأفضل في المستقبل.
القيم الإنسانية تسعى للرفع من مستوى الإنسان نفسه، وهي كالمسبحة إذا انفرطت فستهرب جميع حباتها تباعاً، فمنافسة الأبرار تقطرها قيم أخرى، وقيمة الأمان تعزز اتقان العمل نفسه وتدفع به ليساعد الآخرين للإبداع، وهي دعوة إلى المزيد من العطاء والبذل والسعي لتحقيق رسالة السماء وهي إعمار الأرض.
لذلك لا تصحّ مطلقاً مقارنة الأفراد ببعضهم، فكل إنسان على وجه الأرض له ظروفه وإمكاناته المختلفة عن نظرائه، فمنافسة الأبرار لا ليزاحم كلٌّ منهم رفيقه أو نظيره أو أخاه في الطريق، بل ليتطور وينمو ويزدهر ليباهي يومه بأمسه في الإعمار، وليكون كل شخص أفضل من نفسه، فالسُبُل لبلوغ الفوز بأعلى مراتب الجنّة بعدد أنفاس الخلائق.