حنان الخلفان

الحياة أشبه بمسرح متّسع، يتوالى عليه عدد لا حصر له من المشاهد، حيث يتناوب الناس بين أدوار الممثلين والمشاهدين، في هذا المسرح، كثيراً ما نتعامل مع وجوه لا نعلم حقيقة ما تخفيه وراءها من مشاعر ونوايا وأفكار، فالعديد ممن نلتقي بهم يومياً يرتدون أقنعة مختلفة، بعضها زاهٍ في الظاهر، لكنه يخفي تحت سطحه عوالم معقدة ومتناقضة. هذه الأقنعة ليست فقط وسيلة للإخفاء، بل هي أيضاً وسيلة للهروب من مواجهة الحقيقة، سواء أكانت مواجهة النفس أو الآخرين. ومع مرور الوقت، تصبح حياتنا مجرّد تكرار لمشاهد معادة، يتكرّر فيها نفس الأداء، دون أن ندرك الحقائق المختبئة خلف هذه الأقنعة.

.

ولعل أبرز ما يواجهنا هو قناع الإيمان الظاهري، الذي يرتديه البعض ليخفي تحته سلوكيات تتناقض مع ما يدّعون الإيمان به، يتخذون الدين ستاراً لأفعالهم، محاولين من خلاله التلاعب بمشاعر الآخرين وتحقيق مكاسب شخصية. عن هؤلاء يقول الله تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) سورة الصف: 2-3. هؤلاء الأشخاص يستهلكون الثقة التي يمنحها لهم الناس، مستغلين المبادئ والقيم التي يُظهرونها فقط عندما تكون في مصلحتهم.

.

وفي جانب آخر، هناك من يختار قناع المحبة والمودة ليخفي ما في قلبه من كراهية وحقد. هؤلاء يظهرون للآخرين دعمًا وتشجيعًا، لكنهم في الواقع يتحينون الفرصة للإطاحة بمن حولهم. الابتسامة التي تراها على وجوههم لا تعكس إلا قناعاً مزيفاً يخفي نواياهم السيئة، حيث ينتظرون اللحظة المناسبة للهجوم. الغدر هنا يظهر في أبشع صوره، حيث تكون النوايا خلف القناع أشد خطورة من الكلمات التي تُقال.

.

أما قناع الشجاعة، فهو القناع الذي يرتديه من يحاول إخفاء ضعف داخلي، يعاني من القلق والخوف الذي يسيطر عليه، لكنه لا يجرؤ على البوح به. يتحدث بثقة ويتصرف بثبات، ولكن في داخله هناك صراع دائم. هذا الشخص، رغم المظهر القوي الذي يحاول التمسّك به، يعيش صراعاً داخلياً يتآكل به يوماً بعد يوم. وكما يقول المثل العربي: «الإنسان الشجاع هو من يتغلّب على مخاوفه، لا من يخلو منها.» فالشجاعة الحقيقية لا تكمن في غياب الخوف، بل في القدرة على مواجهته والتغلب عليه بقوة الإيمان والعزيمة. ولا ننسى قناع الصداقة، الذي يرتديه من يتظاهر بأنه الصديق الوفي، بينما تملأه مشاعر الحسد والغيرة. هؤلاء يظهرون الدعم ظاهرياً، لكن في الخفاء، يكمنون لمعارفهم ويحاولون التقليل من نجاحاتهم. تتسلل هذه المشاعر إلى العلاقات الشخصية لتُحَوِّل الصداقة إلى معركة مستترة، تملؤها الأحقاد والتنافسات الخفية التي تقوض الثقة بين الأصدقاء.

.

لكن وسط كل هذه الأقنعة، يظهر الوجه الصادق، الذي لا يحتاج إلى التستر خلف زيف. هؤلاء الأشخاص أصحاب القلوب النقية، هم من يجعلون الحياة تستمر. معدِنهم الأصيل يظهر في كل موقف، لا يبحثون عن مصلحة، ولا يتجنبون التعبير عن مشاعرهم الحقيقية. تجدهم دائماً في المقدمة، صادقين في فرحهم وحزنهم، يتحمّلون مسؤولياتهم بشجاعة دون أن ينتظروا مقابلاً.

.

وبصراحة.. على الرغم من أن الأقنعة تتفشى في حياتنا اليومية، إلا أن كل زمان وكل مكان لا يخلو من أولئك الذين يجسّدون القيم الحقيقية. في النهاية، يبقى المعدن الأصيل هو الذي يضيء في هذا المسرح الكبير، حيث تكون الأفعال هي المحكّ الحقيقي. هؤلاء الناس يثبتون لنا أن القيم النبيلة، مثل الشجاعة والأمانة والمحبة، لاتزال موجودة، حتى وسط زيف الأقنعة.