الدكتورة عائشة الشيخ

استشارية نفسية


على طاولة المقهى جلسنا في زاوية معتمة، كانت تتحدث بصوت مرتجف وبعصبية وتوتر شديدين، وقالت بصوت يائس لقد ضجرت ممن حولي، وأصبحت لا أعلم أن كنت فعلاً كما يقولون أم كما أشعر أنا في قرار نفسي؟ كانت تحمل كأس العصير الذي حمل اسمها عليه والذي اختارت عاملة المقهى أن تكتب عليه «يوم سعيد»، فلربما هي الأخرى قد لاحظت مدى المعاناة التي ارتسمت بصماتها على وجه مراجعتي الحزين. أحضرت كوب قهوتي من المنصة وطلبت منها أن تهدأ وأن تركز على صوت الموسيقى الهادئة، ناشدتها أن تغمض عينيها دقائق وأن تخرج من أحاسيسها السيئة إلى عالم حالم من الزهور والخضرة والنسيم العليل، وأن تركز في خيالها على صوت تلاطم الموج وخرير الجداول، وكونها ملمة بتمارين الاسترخاء التي عودتها عليها، استجابت تلك الشابة المثقلة بالأحزان والمعاناة بسرعة للتعليمات، وحاولت الاسترخاء، حتى كاد السكون والخيال أن يحملنا خارج حدود المكان والزمان. وبعد هدوء العاصفة سألتها: ما المشكلة؟ وهي إحدى مراجعاتي التي أتابعها باستمرار وعلى مدى خمس سنوات. هي من أنجح قصص العلاج النفسي التي عاينتها وتابعتها وأفتخر بها. أتت إلي في العيادة مع أقربائها، مشوشة، بلا هدف ولا مرسى، تعاني من عدم تركيز إدراكي، بسبب حساسيتها النفسية المفرطة وضغط المحيط الاجتماعي عليها، حتى غدا كلامها مشوشاً وغير واضح ويفتقد التركيز. وبكل افتخار بها، فقد كانت تنفذ الخطة العلاجية بحذافيرها، وخطوة خطوة كانت تحقق تطوراً لافتاً للنظر إلى أهلها قبل نفسها. حتى إنني أخبرتها أنها في أحيان كثيرة تسبق خطتي العلاجية بسبب تحمسها الشديد للتطور الذاتي. لم تكن سنين العلاج الخمسة كلها عسلاًً، بل مررنا بنجاحات وكبوات كثيرة شأنها شأن نمطية ظروف الحياة، بين مد وجزر. وبعد كل هذا التغيير الجذري في شعورها وفي تطور إمكاناتها الجديدة وكل ما حققنا من نجاح وصعود وانجازات، إلا أنها تحتار في أحيان كثيراً بين صوتها الداخلي الذي يطمئنها ويخبرها أنها مستقرة نفسياً وأنها ناجحة ومتمكنة من التعبير عن نفسها بجدارة، وبين الصوت الخارجي للنقد المستمر ممن حولها والذي يصيبها بالخيبة والفشل وعدم مبارحة المكان. استوقفتها بهدوء شديد وقلت لها: سوف أوضح لك يا فتاتي ماذا يحدث في ذاتك، فنحن يا عزيزتي في صراع دائم بين أصواتنا الداخلية، وهو صوت العقل الواعي واللاواعي والتي يكون بعضها في صفنا ومعنا ويصادقنا ويدعمنا ويحفزنا على التقدم، وقد يكون صوتنا الداخلي سلبياً ومحطماً ومعيقاً للتطور. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأصوات الخارجية، التي تمثل صوت تحاورنا مع الآخرين وربما التجادل معهم بأمور كثيرة، منها ما يتعلق بعملنا أو بشخصيتنا أو بملابسنا أو بأشكالنا، فهو تحاور شاسع وغير محدود. وقد يكون هذا الصوت أيضاً إيجابياً أحياناً وفي معظم الأحيان، هو صوت انتقادي. فما عليك غاليتي إلا أن تستنيري بصوتك الداخلي المعزز للتقدم، بشرط أن يكون واقعياً وملموساً، وأن تتجاهلي الصوت الداخلي السلبي الذي يعيقك عن النجاح. وكذلك بالنسبة إلى الصوت الخارجي من الآخرين، والذي تنطبق عليه نفس المنهجية، فإن كان النقد بهدف التطور، فتقبليه برحابة صدر وأعيدي تقييم نفسك وعملك وتصرفاتك بواقعية أيضاً. وإن كان الصوت الخارجي بهدف النقد السيئ دون دليل ولا برهان، فاضحكي من أعماق قلبك وتأكدي أن هذا المنتقد لن يضرك في شيء ولن يستطيع أن يحطم مجاديفك.