قرأت ذات مرة مقولة لا تزال حاضرة بقوة في ذاكرتي، تقول: "نحن شعب لا يقرأ، وإن قرأ لا يفهم، وإن فهم لا يطبق" ولعل هذه المقولة تنطبق على الواقع الفعلي إلى حد ما.

في الأزمنة السابقة كانت الهجمات الحربية تتعمّد حرق المكتبات ودور المعرفة بما تحويه في بطونها من كنوز معرفية وعلوم تُعتبر ذخيرة الأمة، ذلك أن الشعوب التي تُحرم من الكتب فهي محرومة من التطور النمو وتغدو مع الوقت مسلوبة القوى، فكانت جرائم حرق المكتبات أول خطوة للقضاء على الأمم تدريجياً.

وتعتبر أشهر الحرائق حريق مكتبة الإسكندرية القديمة على يد يوليوس قيصر، ومكتبة دار العلم التي أنشأها الخليفة العزيز بالله الفاطمي في قصره بالقاهرة، ومكتبة القسطنطينية التي راح ضحيتها أكثر من 120 ألف مخطوطة، ومكتبة بيت الحكمة في بغداد التي تأسست على يد الخليفة هارون الرشيد وغيرها من المكتبات، وهو ما سبب تراجع الدول جيلاً بعد جيل دون إمكانية تعويض ما فُقد أو تأليف ما يوازي جودة المحروق منها.

اليوم اختفت جرائم الحرق وخصوصاً مع الإمكانات المتقدمة في حفظ الكتب إلكترونياً، إذ حّل مكانها فعلٌ أشد وأعمق في التأثير وهو إلهاء الشعوب وجعلها تعزف عن القراءة بنفسها، وهي جريمة غير ملموسة ولا توجد عليها أدلة مادية تُدين أحداً.

في روايته فهرنهايت 451 المكتوبة في خمسينيات القرن الماضي تنّبأ الكاتب الأمريكي راي برادبيري بعالم تصبح فيه حيازة الكتب جريمة يُعاقب عليها البشر، ويقوم فيها النظام -عن طريق رجال الإطفاء- بحرق الكتب أينما وُجدت، وهي مفارقة رمزية، إذ إن مهمة رجال الإطفاء هي الإطفاء وليس الإشعال. وبذلك تحول الشعب تدريجياً لشعب تافه يلهث خلف كماليات الحياة منشغلاً بما تبثه شاشات التلفزيون من مواد لا قيمة لها، مُسلمّين بذلك عقولهم إلى آخرين حتى يفكروا ويقرروا عنهم.

يقول الزعيم الحارق في الرواية: "ليس امتلاك الكتب جريمة.. إنما قراءتها!". إن الكتب دون قراءة تموت على الأرفف بعد أن تفقد الأمل في وجود يد أو عين تمتد إليها لتُعيد إليها الحياة بالقراءة، وحينها فقط تتساوى مع الغبار المتراكم عليها، فتصبح حرفياً: لا شيء!.

يقول برادبيري: "ليس عليك أن تحرق الكتب لتدّمر حضارة، فقط اجعل الناس تكّف عن قراءتها وسيتم ذلك". فهل ستنقذ الحضارة بقراءتك الجادة؟ أم ستتركها تختفي كما اختفى غبار المكتبات المحروقة؟