حفل الملف القطري باستضافة كأس العالم لكرة القدم 2022 بصفحات سيئة السمعة بدءًا باتهامات بالرشاوى وشراء الأصوات، مرورًا بانتهاك حقوق العمالة الأجنبية القائمة على تشييد ملاعب المونديال فيما وصف بالسُخرة والعبودية الحديثة، وصولاً إلى إقرار السلطات القطرية بتنازلات أخلاقية تنتهك القيم الدينية والأعراف الخليجية والإسلامية حتى بات هذا الملف الأكثر فسادًا ودموية وانتهاكًا للكرامة الإنسانية وإثارة للشبهات في تاريخ كرة القدم والرياضة العالمية.
تنازلات أخلاقية وتعديات على القيم الدينية والتقاليد العربية
إباحة المشروبات الكحولية والمثلية الجنسية
أكثر من عشر سنوات من الانتقادات الدولية وحملات التشكيك المتواصلة في أحقية قطر باستضافة مونديال 2022 واتهامات تلاحقها بالفساد والرشاوى واستعباد العمالة الأجنبية، غير أن الطامة الكبرى التي أثارت غضب وامتعاض الشعب القطري والشعوب العربية والإسلامية تمثلت في تقديم السلطات القطرية تنازلات خطيرة للفوز بتنظيم هذه البطولة، ولو على حساب مبادئ الشريعة الإسلامية والقيم الأخلاقية، والثوابت والعادات والتقاليد الخليجية والعربية والإسلامية.
وأفصحت الفترة الماضية عن خضوع النظام القطري لاشتراطات الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) بشأن السماح ببيع وتناول الخمور والمشروبات الكحولية في الأماكن العامة والملاعب، وإباحة السياحة الجنسية والعلاقات المثلية المحرمة والمجرمة في كثير من دول العالم، وغيرها من التنازلات دون احترام لتقاليد الشعب القطري المحافظ أو مراعاة لمبادئ وأخلاقيات المجتمعات الخليجية والعربية، وسط صمت غريب ولا مبرر له من القيادات الدينية المتطرفة والمتشددة المقيمة في قطر.
حيث أكد متعهد خدمات مونديال 2022 جايمي بايروم إن المشروبات الكحولية ستكون متاحة لمشجعي كرة القدم الحاضرين في الملاعب القطرية خلال بطولة كأس العالم 2022، وتوقع بحسب تقارير صحفية "أن يتمكن الناس من الشرب"، بعدما كان لقطر تجربة مع "منطقة المشجعين الرطبة" خلال كأس العالم للأندية 2019، حيث تم السماح للجماهير بتناول المشروبات الكحولية في موقع على مشارف الدوحة، وسط تأكيدات من أمين عام اللجنة العليا للمشاريع والإرث حسن الذوادي آنذاك إن "الكحول ليس جزءًا من ثقافتنا، لكن الضيافة بلى".
وصرح الرئيس التنفيذي لبطولة كأس العالم قطر 2022 ناصر الخاطر إن بلاده تدرس خيار اعتماد "أماكن مخصصة" خلال البطولة التي تتوقع قدوم نحو مليون مشجع من الخارج لمتابعتها، كما تفكر في خفض أسعار المشروبات الكحولية، مؤكدًا في رده على سؤال عن احتمال تسبب مشجعين ثملين باضطرابات وسبل التعامل معها، أنه "طالما كان المشجعون سعداء. لا مشكلة لدينا"، مشيرًا إلى ترحيب بلاده "بكل المشجعين الراغبين بالحضور إليها على اختلافات ميولهم الجنسية وانتماءاتهم الدينية والعرقية"، وشدد على "طمأنة كل مشجع، من أي جنس كان، من أي توجه جنسي، دين، عرق، أن قطر هي أحد أكثر الدول أمانًا في العالم، وسيكون مرحبًا بهم هنا"، وأنه "لا خوف على المثليين" في إشارة إلى اعتراف النظام القطري وإقراره بالعلاقات الجنسية المثلية بما يخالف مبادئ الشريعة الإسلامية والقيم والأعراف الثقافية والاجتماعية، والثوابت الأخلاقية الراقية التي يتسم بها الشعب القطري الشقيق.
وأعلن جويس كوك رئيس اللجنة المسؤولية الاجتماعية والتعليم التابعة للاتحاد الدولي لكرة القدم في تصريح نشرته يورونيوز بتاريخ 9/12/2020 أنه سيتم السماح بالتلويح ورفع رايات قوس القزح، التي تمثل مجتمع الشواذ في الملاعب المضيفة لمباريات البطولة، موضحًا أن قادة اللجنة التنظيمية لمونديال قطر أكدوا له بأنهم لن يتم انتزاع تلك الرايات من حامليها لأن الفيفا لن ولا يتسامح مع أي نوع من التمييز. ونشرت شبكة ايه بي سي نيوز الأمريكية في وقت سابق تقريرًا أظهرت فيه تدخل أجهزة الأمن والإعلام القطرية في ثماني تقارير لصحيفة نيويورك تايمز وشطبت منها، في النسخة المقروءة بالدوحة، الإشارة للمثلية الجنسية باعتبارها جزءًا مفترضًا من ترتيبات مونديال 2022، في محاولة مكشوفة لإخفاء ما تعهدت به لاحتواء غضب الرأي العام المتوقع.
وأكد الناطق باسم (فيفا) في بيان نشر على موقع "بينك نيوز" ونقلته وكالة أنباء "سبوتنيك" الروسية بتاريخ 23/7/2018 بأن الاتحاد الدولي اشترط على دولة قطر أن تعلن وبشكل رسمي واضح قبولها "المثليين" جنسيا، ولا تمارس أي تمييز ضدهم، مذكرًا الحكومة القطرية بأنها سبق ووافقت على ذلك رسميًا، فيما قال آندي هارفي، الخبير المحكّم في التشريعات الرياضية، أن على قطر أن تلتزم رسميًا وعلنيًا بالسماح للمثليين ليس فقط أثناء فترة كأس العالم وإنما كتشريع قانوني دائم، كما حصل مع روسيا في مونديال 2018، لتصبح قطر أول بلد عربي مسلم يستضيف البطولة، ويعترف بحقوق المثليين جنسيًا.
اتهامات دولية بالفساد والرشاوى
لم تتوقف الأزمات المتعلقة باستضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم 2022 على الجانب القيمي والأخلاقي، فقد كشفت وسائل إعلام دولية عن اتهامات بالفساد المالي تشوب فوز قطر بتنظيم البطولة، ومن بينها مجلة (فرانس فوتبول) التي أشارت في تحقيق طويل بعنوان "قطر جيت" في 29 يناير 2013 إلى شراء النظام القطري حق استضافة بطولة كأس العالم 2022 عبر منح رشاوى لأعضاء اللجنة التنفيذية، وتورط ميشيل بلاتيني رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ونائب رئيس الاتحاد الدولي "فيفا" الأسبق بالتصويت لقطر في مقابل جملة من الرشاوي في هيئة "هدايا"، من بينها: قيام قطر بشراء نادي باريس جيرمان وإنشاء شبكة "بي إن سبورتس فرنسا"، فضلاً عن المساهمة في رأس مال شركة لاجاردير المختصة في صناعة وبث وتوزيع المحتوى التلفزيوني، وكشف موقع "ميديا بارت" عن عثور جهاز مكافحة الفساد التابع للشرطة الفرنسية، على وثيقة هامة تم تحريرها بخط اليد عام 2011، نصت على تعيين نجل بلاتيني على رأس شركة الملابس الرياضية "بوردا" التابعة للصندوق السيادي القطري.
فضائح مستمرة أكدتها جريدة "صنداي تايمز" البريطانية في تحقيق مدعم بالوثائق في مارس 2019 عن دفع قطر رشاوى ممثلة في صفقات سرية مع "الفيفا" بمبالغ مجموعها 880 مليون دولار أميركي، قبل فترة وجيزة من فوزها باستضافة المونديال، إلى جانب تقارير عن تلقي الترينيدادي جاك وارنر (النائب السابق لرئيس فيفا) مليوني دولار رشوة من شركة يملكها رئيس الاتحاد الآسيوي السابق القطري محمد بن همام للتصويت لصالح قطر، وغيرها من الاتهامات التي رصدتها صحف عالمية وتناولتها جهات تحقيق دولية، وصلت إلى حد مطالبة العديد من المسؤولين الحاليين والسابقين بضرورة تدارك الخطأ وسحب تنظيم كأس العالم من قطر، وفي مقدمتهم السويسري جوزيف بلاتر الرئيس السابق لاتحاد اللعبة الذي رشح أربع دول لاستضافة الحدث، هي ألمانيا وإنجلترا وأمريكا واليابان، وما أكده اللورد تريسمان، رئيس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم سابقا، خلال فيلم وثائقي أذاعته شبكة "بي بي سي" في معرض حديثه عن إنفاق قطر 117 مليون جنيه إسترليني لمسؤولين وجهات معنية بالتصويت بحسب معلومات استخباراتية بريطانية.
انتهاكات صارخة لحقوق العمالة الأجنبية
امتدت التجاوزات القطرية لتشمل انتهاكات خطيرة لحقوق العمالة الأجنبية العاملة في مواقع تشييد وإعداد منشآت المونديال، ومعاناتها بحسب المنظمات الحقوقية الدولية من سوء المعاملة في ظل ظروف قاسية غير آدمية، ورواتب هزيلة، ووقف وتأخير الأجور، وإهمال أوضاعهم الاجتماعية والصحية فيما يشبه "السُخرة" و"العبودية الحديثة"، ما نتج عنه بحسب صحيفة "ذا جارديان" البريطانية وفاة 6500 عامل من خمس دول آسيوية منذ حصول قطر على حق تنظيم البطولة في عام 2010.
وكشفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير لها في أغسطس 2020 أن ثمّة انتهاكات ممنهجة يتعرّض لها العمّال الوافدون في قطر، ومعاناتهم بشكل تعسفي من تأخير دفع الأجور، أو دفعها ناقصة، أو عدم دفعها، وآخرين عالقين في ظروف عمل سيئة، حيث تعتمد قطر على مليوني عامل وافد يشكلون 95 بالمائة من القوى العاملة في البلد، وذلك ضمن تقاريرها الدورية للعام العاشر على التوالي حول "خضوع العمال الوافدين في قطر لنظام عمل استغلالي يعرضهم لخطر العمل الجبري، إذ يحاصرهم في ظروف عمل تهدد حقوقهم في الأجور العادلة والأجر الإضافي والسكن اللائق وحرية التنقل والقدرة على اللجوء إلى العدالة"، فيما أشار مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحقوق المهاجرين في عام 2014 إلى أن "الاستغلال متفشٍ، وكثيرًا ما يعمل الوافدون دون أجر، ويعيشون في ظروف دون المستوى". وطالبت منظمة العمل الدولية في بيان يوم 31/3/2014 بضرورة اتخاذ إجراءات فورية للحد من انتهاك حقوق العمال وإنهاء "نظام العبودية القائم"، ووصف مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في يناير 2014 وضع العمالة المهاجرة في قطر بأنه "أشبه بحالة من حالات الرق العصري"، نتيجة العمل القسري والإتجار بالبشر.
ونشر مارتن صامويل مقالاً في صحيفة "ديلي ميل" كشف خلاله عن إحصائية للاتحاد الدولي للنقابات عام 2015 أكدت وفاة 1200 عامل في مشاريع تتعلق بكأس العالم، وما أعلنته حكومة نيبال عام 2019 من وفاة 1426 عاملاً من المشاركين في مشروعات البنية التحتية للدوحة، فيما طالبت مجلة "ذي أتلانتك" الأمريكية "فيفا" بسحب تنظيم بطولة كأس العالم من قطر، بسبب "العبودية والظلم" الذي تتعرض له العمالة الأجنبية، مستعرضة تقارير حقوقية حول وفاة آلاف العمال الأجانب من الهند وبنجلاديش ونيبال بسبب الظروف غير الإنسانية التي عملوا فيها بمشروعات البنية التحتية والملاعب الخاصة بالمونديال، محذرة من "أن استضافة الدوحة للبطولة ستكون بمثابة دعم لنظام فاسد وديكتاتوري نجح في الحصول على حق تنظيم المونديال بالفساد والرشاوى، وهو أمر ينافي المبادئ التي قامت عليها فكرة تنظيم كأس العالم".
وكان المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان التابع للفيفا قد طالب قطر في 2017 بتحسين أوضاع العمال الأجانب، وتشديد عمليات التفتيش على ظروف عملهم، مشيرًا إلى "أن الوفاة والأمراض والمعاملة القاسية هي أكثر ما يقلق المنظمات الحقوقية الدولية". فيما انتقدت منظمات دولية تقييد السلطات القطرية لحق الصحفيين في كتابة التقارير الإخبارية، لاسيما فيما يتعلق بحقوق العمالة الأجنبية وكأس العالم 2022، حيث احتُجز أفراد طاقمي إعداد التقارير الإخبارية من محطة ARD الألمانية للبث ومحطة BBC في عام 2015، وتم استجوابهم ومنعهم من مغادرة البلد لعدة أيام، وأوقفت الشرطة في قطر اجتماعاً لاتحاد الصحفيين النيباليين في يناير 2018 عن حرية الصحافة واعتقلت اثنين من الصحفيين ورحلتهما بعد استجوابهما، وغيرها من الوقائع.
هذه الكوارث الإنسانية والانتهاكات بحق العمالة الأجنبية العاملة في قطر دفعت العديد من المنتخبات الأوروبية، في مقدمتها ألمانيا ومولدوفا والنرويج وهولندا والدانمارك، إلى توجيه رسائل ضاغطة على اللجنة المنظمة لكأس العالم 2022، بخصوص ملف حقوق العمال، حيث ارتدى أبطال العالم 2014 قمصانًا سوداء تتضمن عبارة "حقوق الإنسان" قبيل مواجهة أيسلندا، ورفعوا لافتة في مباراة أخرى "من أجل الـ30.. نحن فريقكم" في إشارة إلى عدد مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بعد ارتداء لاعبي المنتخب النرويجي قمصان كُتب عليها "حقوق الإنسان، داخل وخارج الملعب"، وطباعة لاعبي المنتخب الدنماركي عبارة "كرة القدم تدعم التغيير" على قمصانهم، فيما رفضت شركة "هندريكس جراتسودن" الهولندية، توريد العشب إلى ملاعب مونديال الدوحة لأسباب من بينها المخاوف المتعلقة بحقوق الإنسان. وقالت صحيفة "ديلي ريكورد" البريطانية إن مجموعة من مشجعي الكرة الدنماركية قدمت التماسًا للبرلمان الدنماركي لمقاطعة كل ما يخص كأس العالم 2022، بسبب ما اعتبرته "حصول قطر على حق استضافة النهائيات بملف مشتبه في فساده، وهي دولة ديكتاتورية وقامت باستعباد العمال، حيث يحتجز عمال مهاجرون في البلاد وهناك 3000 عامل فقدوا حياتهم هناك خلال الفترة الأخيرة.. وحان الوقت لأن نتجرأ جميعًا على التمسك بالقيم التي نعتز بها مثل الديمقراطية وحرية التعبير وحقوق الإنسان الأساسية".
إن استضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم 2022 تمثل أحد أكثر الملفات إثارة للجدل والشبهات في تاريخ المسابقات الرياضية العالمية، وشاهدة على تناقضات النظام القطري ومنصاته الإعلامية بين ادعاءات المثالية، وما كشفته الوقائع من شبهات فساد مالي تطعن في مصداقيته ونزاهته، وانتقادات دولية لسجله الحقوقي الأسود في الإتجار بالبشر وإجبار العمالة الأجنبية على العمل في ظروف قاسية وحرمانها من أبسط حقوقها الإنسانية ووفاة الآلاف منهم خارج ديارهم، وقبل كل ذلك ما قدمته السلطات القطرية من تعهدات بالتخلي عن القيم الدينية والتقاليد الخليجية والعربية الأصيلة فيما يختص بالسماح بالمحرمات علانية من تناول الخمور والمشروبات الكحولية في الأماكن العامة وحضور "المثليين" بلا خوف عليهم في ميكافيلية غير أخلاقية.