أ. د. جهان العمران

نعيش في عالم جديد سريع الإيقاع، تسير الحياة فيه بسرعة لاهثة، حيث أصبحت إدارة الوقت أحد أهم التحديات التي تواجه الإنسان، وتفرض عليه فهمه وإدراكه بشكل صحيح حتى يحافظ على صحته النفسية وجودة حياته.

ولكن ما لا يدركه الكثيرون هو أن الوقت ليس مجرد مفهوم فيزيائي يُقاس بالدقائق والساعات، بل هو أيضاً مفهوم نفسي يُعرف بـ«الساعة النفسية». هذه الساعة الداخلية التي تلعب دوراً محورياً في كيفية إدراكنا للوقت وتأثيره على سلوكياتنا وقراراتنا، بل وعلى توازننا النفسي.

وتشير الساعة النفسية إلى الطريقة التي نختبر بها الوقت بشكل شخصي. ففي بعض الأحيان، قد نشعر بأن الدقائق تمر ببطء شديد، كما هو الحال عند الانتظار في طابور طويل، أو انتظار ترقية نعتقد أننا نستحقها ونبذل أقصى جهدنا للحصول عليها ولكن تتأخر كثيراً لأسباب لا يعرفها إلا رب العالمين. بينما في أوقات أخرى، قد تطير الساعات دون أن نشعر بها، مثلما يحدث عندما ننغمس في نشاط ممتع. كقراءة كتاب ممتع أو قضاء وقت مع أشخاص نحبهم.هذا الاختلاف في الإدراك يعود إلى عوامل نفسية وعصبية معقدة.

من الناحية النفسية، تلعب الحالة المزاجية دوراً كبيراً في تشكيل إدراكنا للوقت. فعندما نكون في حالة من التوتر أو القلق، يميل الوقت إلى التمدد، مما يجعلنا نشعر بأنه يمر ببطء. على العكس من ذلك، عندما نكون سعداء أو منشغلين بأنشطة ممتعة، يبدو الوقت وكأنه يمر بسرعة. هذه الظاهرة تُعرف بـ«تأثير التمدد الزمني» time dialation و«تأثير الانقباض الزمني» time contraction.

بالإضافة إلى ذلك فإن الساعة البيولوجية هي آلية داخلية تنظم دورات النوم والاستيقاظ، وتؤثر على مستويات الطاقة والتركيز لدينا. وهي تؤثر على الساعة النفسية بشكل كبير، فعندما تكون الساعة البيولوجية مضطربة، كما هو الحال عند السفر عبر مناطق زمنية مختلفة أو العمل في نوبات ليلية، قد نشعر بتشوه في إدراك الوقت. ونشعر بالتعب والإرهاق.

والساعة النفسية ليست مجرد ظاهرة مثيرة للاهتمام، بل لها تأثيرات حقيقية على جميع نواحي حياتنا. على سبيل المثال، يمكن أن تؤثر على إنتاجيتنا في العمل، حيث إن الإحساس بالوقت الممتد أو الذي يمشي ببطء قد يؤدي إلى الإرهاق، وذلك عندما نقوم بعمل ممل أو قد فرض علينا قسراً، أو عندما نشعر في حالة خطر داهم كوقوع كارثة طبيعية أو حادث مؤسف، أو انتظار نتيجة امتحان أو فحوصات طبية. بينما الإحساس بالوقت المنقبض أو السريع قد يجعلنا ننجز المهام بسرعة لأننا اخترنا المهمة بإرادتنا وحسب ميولها وقدراتنا، كممارسة هواية نحبها كالعزف على آلة موسيقية أو رسم لوحة تعبر عن موهبتنا، أو إشباع شغف علمي معرفي.

كما أن مفهوم الساعة النفسية فيما يتعلق بالصحة النفسية هي استحضار أحداث إيجابية أو سلبية من الماضي والمرور بنفس الخبرة الانفعالية التي حدثت في ذلك الوقت. فمثلاً قد نواجه في الماضي حدثاً ضاغط كأن نفقد عزيزاً، أو نتعرض لحادث مؤلم كخسارة مادية أو فشل في مشروع ما.عندما نتذكر هذا الحدث نمر بنفس المشاعر المؤلمة التي عانينا منها خلال حدوثه على أرض الواقع، وكأننا نعيشه في الحاضر بسبب تأثير الساعة النفسية داخلنا. وكذلك أن مررنا بخبرات سعيدة أبهجت قلوبنا في الماضي فإن ساعتنا النفسية تستحضرها لنعيشها مجدداً فيغمرنا شعور فياض بالبهجة والسعادة كما لو أننا نعيشها الآن.

لذلك، فإن فهم الساعة النفسية وكيفية إدارتها يمكن أن يساعدنا على تحسين جودة حياتنا. من خلال تذكر الأحداث السعيدة وتجنّب اجترار الذكريات المؤلمة. كما أن استخدام تقنيات مثل التأمل، وإدارة الضغوط، وتنظيم النوم، يمكننا تحسين إدراكنا للوقت وبالتالي تعزيز صحتنا النفسية والجسدية.

في النهاية، الساعة النفسية هي جزء لا يتجزأ من تجربتنا الإنسانية. بفهمها والتعامل معها بحكمة، يمكننا أن نعيش حياة أكثر توازناً وإشباعاً وسعادة.

أستاذة جامعية في علم النفس التربوي