بين دفاتر العقود ووعود مكاتب الاستقدام، تحلم كثير من الأسر البحرينية بالحصول على يدٍ عاملة تخفف عنهم ضغوط الحياة اليومية، وتُعينهم على التوفيق بين العمل وتربية الأبناء ورعاية كبار السن. ولأجل هذا الحلم، لا يتردد البعض في دفع مبالغ تفوق الألف دينار تشمل رسوم الاستقدام، وتذاكر السفر، والفحوصات الطبية، وإجراءات الإقامة، ظنًّا منهم أن هذه التكلفة الباهظة ستكون مقدمة لاستقرار طويل الأمد داخل جدران منازلهم.
لكن ما إن تطأ أقدام بعض العاملات أرض المملكة، حتى يبدأ سيناريو آخر... سيناريو الهروب.
فما أن تستكمل العاملة فترة الثلاثة أشهر وهي المدة التي يتوقف فيها الضمان من قِبل المكتب في معظم الحالات، حتى تقع في شباك من يتربص بها. تصطادها ذئاب الشبكات الخفية التي تنشط في الخفاء، وتغريها بالهرب عبر وعودٍ خادعة برواتب أعلى، وحرية أكبر، وسكن مريح. وبينما تظن العاملة أنها تنتقل إلى واقع أفضل، تجد نفسها في قبضة من يستغلها، أو يزجّ بها في أعمال منافية للأخلاق، أو يدفعها إلى السرقة والعمل غير المشروع.
ولا يمكن في هذا السياق إغفال الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الداخلية في رصد هذه الشبكات المشبوهة وملاحقتها، والتي نجحت في إحباط عدد من محاولات التلاعب والتغرير بالعاملات، إلى جانب الدور التنظيمي المهم الذي تضطلع به هيئة تنظيم سوق العمل في ضبط العلاقة بين أطراف سوق الاستقدام، وتطوير الإجراءات المتعلقة بالتراخيص والمتابعة. إلا أن حجم التحديات المتكررة يفرض ضرورة مراجعة بعض الإجراءات القائمة، لضمان بيئة أكثر توازناً واستقراراً، تحفظ للأسرة حقوقها وللعاملة كرامتها، وتُسهم في الحد من تكرار هذا السيناريو المؤلم.
وما يزيد من حدة الأزمة أن الأسرة التي التزمت بالقانون، واستقدمت العاملة عبر مكتب مرخّص، وسددت كل ما عليها هي من تتحمل وحدها خسائر هذا الهروب: خسارة مالية، وقلق يومي، وانهيار في توازن المنزل. أما مكاتب الاستقدام، فكثير منها يتنصل من المسؤولية، وكأن دورها ينتهي بمجرد عبور العاملة المنافذ الرسمية.
ووسط هذا الواقع المُربك، لا نغفل جانباً أكثر قسوة: هناك أسر تضطر للاقتراض من البنوك أو الدخول في جمعيات مالية بين الأقارب لتحمّل تكاليف الاستقدام، بينما يُقصّر آخرون على أنفسهم وعلى أبنائهم لتوفير المبلغ المطلوب. مشهد يومي مؤلم يعكس حجم المعاناة، حين يتحول حلم الاستقرار المنزلي إلى عبء نفسي ومالي لا يرحم.
ومع تكرار هذه التجارب، بدأت بعض الأسر تتجه إلى استقدام عاملات بأسعار زهيدة، لا رغبة في التوفير، بل خشية من الخسارة. وهذه الظاهرة وإن بدت منطقية ظاهريًا تُكرّس الفوضى، وتُضعف حماية الجميع، وتُفاقم من حجم التلاعب في سوق العمل المنزلي.
نعلم أن هناك ما يسمى بتأمين العاملات أو مبالغ الضمان، لكن السؤال المنطقي: لماذا لا تكون هذه الضمانات مفعّلة من أصل المبلغ المدفوع للاستقدام؟ الأسر مرهقة مادياً، ولا يُعقل أن تُطالب برسوم إضافية لتأمين نفسها من أزمة لم تكن سببًا فيها. من العدل أن يُخصص جزء من المبلغ الأساسي كتأمين تلقائي، يُستخدم عند الطوارئ دون الحاجة إلى مطالبات معقدة أو شروط تعجيزية.
ورغم الجهود القائمة، إلا أن بعض الإجراءات الحالية قد لا تكفي لمعالجة التحديات المتكررة، خصوصًا فيما يت علق بتحمّل المسؤوليات بعد هروب العاملة. وهذا ما يدعو إلى مراجعة هادئة ومنصفة لآليات التنفيذ، بما يحقق توازنًا أفضل في العلاقة بين الأسرة ومكاتب الاستقدام.لسنا بصدد التهجم على طرف، أو تبرئة طرف آخر، بل نطمح إلى بيئة منظمة تحفظ كرامة العامل، وتحمي الأسرة من أن تكون الضحية الدائمة لأي خلل في المنظومة. كرامة العمل لا تعني التمرد أو الهروب، والعدالة لا تتحقق حين تُترك الأسرة وحدها في وجه الخسارة، بينما يغيب المحاسَب الحقيقي.
وبصراحة ألم يحن الوقت لإعادة النظر في الإجراءات المتبعة في هذا الملف، ولنعمل على تطوير الحلول التي تحقّق توازناً حقيقياً في الحقوق والواجبات، وتُعيد للأسر ثقتها واستقرارها. وما طُرح هنا ليس سوى رأيي الشخصي كمواطنة وكاتبة رأي، عبّرت فيه عن معاناة تتكرر في واقعنا، وأمل في إصلاح يُنصف الجميع.