في عصر السوشيال ميديا والانفتاح الرقمي، أصبحت حياة الكثيرين عُرضة للعلن، بما في ذلك حياة الأطفال. ومع الأسف، بات من الملاحظ أن بعض الآباء يستغلون أبناءهم لتحقيق مكاسب مادية أو لنيل شهرة واسعة على حساب طفولة أبنائهم وحقوقهم. هذه الظاهرة المقلقة تستدعي الوقوف عندها وتأمل أبعادها النفسية، الاجتماعية، والقانونية. ودون شك يعد استغلال الأطفال لتحقيق المكاسب والشهرة هو نوع من الاعتداء غير المرئي، لكنه لا يقل خطراً عن أي شكل آخر من أشكال الإساءة. وإذا كانت حماية الطفولة مسؤولية جماعية تبدأ من الأسرة فإنها تمتد إلى المجتمع والدولة. وبدلاً من استخدام الطفل كوسيلة للشهرة، يجب دعمه لبناء شخصيته بشكل صحي وسليم، ليصبح فرداً واعياً قادراً على تحقيق النجاح بقراره واختياره، لا بقرارات الآخرين.
ويظهر استغلال الأطفال بطرق متعددة، لعل أبرزها:
قنوات اليوتيوب العائلية: حيث يقوم الآباء بتصوير أطفالهم في مواقف يومية أو تمثيلية بهدف جذب المتابعين وزيادة المشاهدات، ما يدرّ عليهم أرباحاً كبيرة من الإعلانات.
الاستعراض المفرط لحياة الأطفال الخاصة: مثل تصويرهم في حالات بكاء، مرض، أو حتى عقاب، مما ينتهك خصوصيتهم ويعرّضهم للحرج والتنمر.
العمل في الإعلانات والمجال الفني دون حماية حقيقية: يتم الدفع بالأطفال إلى العمل أمام الكاميرات لساعات طويلة أحياناً، دون مراعاة لمصلحتهم النفسية أو العمرية.
كذلك تتعدد أشكال هذا الاستغلال في الحياة اليومية، ويمكن رصد عدة نماذج حقيقية:
1. قنوات العائلة على يوتيوب
بعض العائلات تحوّلت إلى "ماركات رقمية"، حيث تعتمد القنوات على يوميات الطفل ومشاعره ومواقفه العفوية أو المصطنعة، بهدف التربّح من الإعلانات، بغضّ النظر عن تأثير ذلك على الطفل نفسياً واجتماعياً.
2. نشر لحظات حساسة أو محرجة
كثير من الآباء يصورون أطفالهم في مواقف بكاء أو عقاب أو خجل، وينشرون هذه المشاهد عبر الإنترنت لجذب التفاعل، مما يعرّض الطفل للتنمر أو الإهانة لاحقاً.
3. استغلال الأطفال في الإعلانات التجارية
يُجبر بعض الأطفال على تصوير محتوى دعائي باستمرار، ويُستخدمون كوسائل ترويجية لمنتجات متنوعة على إنستغرام أو تيك توك، مما يحرمهم من الراحة واللعب.
4. فضح الخلافات الأسرية على العلن
في بعض الحالات، يُستخدم الأطفال كورقة ضغط في قضايا الطلاق أو الخلافات الزوجية، حيث تُنشر حياتهم الشخصية على الملأ لاستدرار عواطف المتابعين.
5. الضغط للمشاركة في مسابقات أو الظهور الإعلامي
يتعرض بعض الأطفال لضغط عائلي شديد للمشاركة في مسابقات فنية أو برامج تلفزيونية بهدف تعزيز شهرة العائلة، حتى لو لم يكونوا مستعدين نفسياً أو عاطفياً لذلك.
6. ظاهرة "البيوت المفتوحة"
تقوم بعض العائلات بعرض تفاصيل الحياة اليومية كاملةً -من الاستيقاظ إلى النوم- بشكل شبه دائم، مما يسلب الطفل خصوصيته وراحته ويحوّله إلى "منتَج ترفيهي".
دوافع الآباء
قد تكون النوايا حسنة في الظاهر، كالرغبة في توثيق اللحظات الجميلة أو تأمين مستقبل الطفل مادياً. لكن الواقع يكشف أن الشهرة والربح السريع هما الدافعان الرئيسيان، حيث تحوّل الطفل إلى "أداة تسويق" تُدرّ دخلاً على الوالدين، حتى لو كان ذلك على حساب راحته النفسية أو نموه الطبيعي.
الآثار النفسية والاجتماعية على الأطفال
انعدام الخصوصية: يفقد الطفل خصوصيته في سن مبكرة، ما قد يؤثر على نمو شخصيته واستقلاليته.
الضغط النفسي: يُجبر الطفل على التصرف بطريقة معينة أو تكرار مشاهد تمثيلية قد تكون مرهقة.
الشهرة المبكرة: قد تؤدي الشهرة المفروضة إلى اضطرابات نفسية لاحقة، كالاكتئاب أو القلق أو حتى الانعزال الاجتماعي.
ضعف الإدراك للهوية: حين يُعرّف الطفل نفسه من خلال "شخصيته الافتراضية"، فإنه قد يعاني من صراع هوية في مراحل لاحقة.
أن مثل هذه التجاوزات الأخلاقية والقانونية تستوجب الردع ومن الواجب على الآباء إدراك أن الأطفال ليسوا ملكية خاصة يُتصرف بها كيفما شاؤوا. يجب أن تكون مصلحة الطفل فوق كل اعتبار، وأن تُمنح له المساحة الكاملة لينمو ويعيش طفولته بحرية دون استغلال. كما أن على الجهات التشريعية التدخل بوضع قوانين واضحة تجرّم استغلال الأطفال إعلامياً أو تجارياً دون ضوابط، مع ضرورة مراقبة منصات التواصل الاجتماعي لهذه التجاوزات.