خرجنا من الصف إلى ساحات المدرسة نقيس الظلال والزوايا... صارت الرياضيات تمشي معنا، تحادثنا ونحادثها. ولعل ومن أجمل التجارب كانت خروجنا من الصف إلى حديقة المدرسة حيث فرشت أوراق النشاط على العشب وأسندت لكل مجموعة مهمة واقعية: قياس محيط حوض الزراعة؟ النسبة بين طول الظل والشجرة؟ تصنف أنواع الزهور حسب اللون والطول ثم تمثيل البيانات في جداول ورسوم بيانية ونشاط آخر حول مهارات الضرب والقسمة والنسب إذا كانت كل نبتة تحتاج 25 سم بين الأخرى كم عدد النباتات التي يمكن زراعتها في صف طوله 2 متر... عندها أدركت أن الرياضيات لا تدرس... بل تكتشف تحت الشمس وتتحاور مع الحياة.
لكن التحدي الأكبر لم يكن في كسر الروتين فقط، بل في إقناع الطالبات بأن لهن صوتاً... ترددن في البداية، لكني صممت الأنشطة لتوقظ مهارات التفكير العليا، نقد الحل، عكس المعطى، ابتكار المسائل، ربط المفهوم بالحياة، جعلت الأسئلة تنبت من الأعماق لا من صفحات التكرار.
صممت أركاناً تنطق بالحياة: ركن المحاكمة المنطقية، حيث تناقش الحلول وتدافع عنها، وركن "الرياضيات في الحياة" التي نحلل فيها الزوايا، نلاحظ الأشكال، ونكتشف أن الرياضيات عدسة نرى بها العالم طلبت منهن طرح أسئلة مفتوحة وتحويل كل مسألة إلى فرصة للإبداع، فلم تعد الواجبات نسخاً، بل مرآة لمستوى كل طالبة.
وحين حولت درس النسبة والتناسب إلى مشروع بيع وشراء، بدأت الطالبات يحسبن الربح، يصممن لوحات، ويحللن المعادلات كما تحل ألغاز الحياة، وكانت فرحتي كبيرة حين همست طالبة: "اليوم فهمت كما لم أفهم من قبل!".
واجهت تساؤلات زميلات وتردد طالبات، لكني كنت أؤمن أن كل فكرة تحتاج وقتاً، وأن الشغف وحده لا يكفي... بل يجب أن يترجم إلى فعل.
واليوم لا أبدأ حصتي بـ "افتحوا الكتاب"، بل بـ"تخيلوا لو أن..." أو "لو كنتِ مهندسة، ماذا ستفعلين؟" صارت الحصة مشهداً حياً والرياضيات بطلته أنا لا أشرح فقط... أنا أصنع مشهداً تعليمياً.. لا أطلب حفظ قانون بل أن يصبحن هن القانون.
واختتمت فاطمة حديثها بكلمات هي منهاجاً للمعلمين "حين يتجاوز التعليم حدود الجدران ويتصل بواقع الحياة يصبح أصدق وأعمق، وحين تتحول الطالبة من متلقيه إلى شريكة في التفكير تنبض الحصة بالحياة ويصير الصف ورشة من الإبداع والمعنى".
أما أنا، فكنت أصغي لا أقاطعها... في صوتها حكاية نضج وفي تجربتها درس... وحين انتهت شعرت بالفخر... لا بها فقط بل بروح المعلمة التي تسكنها تلك التي تؤمن أن التعليم ليس وظيفة بل هو أثر، وأن الرياضيات ليست أرقاماً بل حياة تعاش وتكتشف.
انتهى اللقاء وأنا أحمل امتناناً عميقاً أن في الميدان معلمات يصنعن الفرق، يعدن إلى العلم نبضه وللطالبة صوتها وللصف حياة.