أميرة صليبيخ

في أحد المقاهي، جلستُ قبالة مجموعة أمهات برفقة بناتهن الصغيرات. كانت الأجواء مثالية تسودها الابتسامات والأحاديث اللطيفة، حتى قاطعت إحداهن الهدوء قائلة بصوت مرتفع: «سمعوا بنتي شتقول.. شفيج مينونة؟ سكتي بس..حلاتج ساكتة! ليتني ما يبتج معاي، فشلتيني!

ارتبكت الطفلة ذات السنوات السبع في بادئ الأمر، ثم سرعان ما تحوّل وجهها البريء إلى بقعة حمراء موجعة، وركضت للاختباء تحت الطاولة المجاورة، وسط ضحكات وقحة، ونظرات مريبة ظلت عالقة في الهواء وفي ذاكرتي أيضاً حتى الآن!

قد تكون هذه المواقف عادية جداً لدى بعض الأمهات، وتتكرر بشكل يومي على مدار الساعة، ولكنها لحظات مفصلية في تكوين شخصية الطفل. فكلمات مهينة مثل هذه لا تمر مرور الكرام، بل تترك ندوباً في النفس وتزرع الخجل، وتُحّولُ طفلة مرحة وسعيدة إلى شخصية حزينة منغلقة على ذاتها، تكره الاختلاط بالآخرين وتكره أمها وقد تكره نفسها أيضاً والحياة بأكملها!

الأطفال الذين يربّون على أن كلامهم لا قيمة له، وتعبيرهم عن مشاعرهم مثاراً للسخرية، ومحاولتهم للدفاع عن أنفسهم تجعلهم أضحوكة، هؤلاء يكبرون وقد ابتلعوا أصواتهم وطمسوا شخصياتهم واختبؤوا خلف شعورٍ بالدونية لن يفهمها أحد، ولن يستطيعوا الخلاص منها بسهولة. فصوتهم غير مسموع وإن سُمع فهو مذموم. الحديث في حضور الوالد ممنوع، ومناقشة الأوامر ممنوع، وتبادل وجهات النظر ممنوع، والتصريح بالمشاعر والآراء ممنوع.

هكذا ينشأ جيل من الأطفال عديمي الثقة بسبب هذه السلوكيات الخاطئة التي تُمارس باسم التربية، معتقدين أن قمع الأطفال في سن صغيرة هو الذي سيجعلهم مطيعين وبارين! التربية لا تعني كبت الصوت، بل خلق مساحة آمنة للكلام. الطفل الذي يُسمح له بالتعبير، يتعلّم كيف يواجه الحياة بثقة. أما من يُقمع، فيكبر محمّلًا بعُقد الصمت، والانعزال، الخوف وربما كراهية الذات.

نحن لا نريد تربية «أطفالاً مؤدبين» بقدر ما نريد «أطفالاً طبيعيين»، وهذا المقال دعوة لإعادة النظر في طريقة تربية الأبناء، والنظر في منحهم الحرية للكلام والتعبير دون خوف من إطلاق الأحكام، والأهم من ذلك تعلم احترامهم مهما كانوا صغاراً في السن. وتذكر أن ما تزرعه فيهم اليوم ستحصده في الغد!

لو تعلمنا منذ البداية أن ننصت لأبنائنا ونمنحهم الأمان والاحترام الذي يستحقونه، لكفيناهم المعاناة والاضطرابات النفسية ومحاولات المعافاة في المستقبل. فطفل اليوم هو رجل الغد، وما يتم تلقينه به الآن سيُردده داخله طويلاً، إمّا كوسام يحمله على صدره أو كندبة لا تبرأ.