أشفق على الكثير من البشر. أولئك الذين ولدوا في ظروف بائسة، ولم يعرفوا يوماً معنى الأسرة السعيدة، ولم يتنعّموا بشعور الاحتواء في الأحضان، أو المسح برفق على الرأس من قبل الوالدين، لم يجّربوا أن يمدحهم أحد، أو يمنحهم الشعور بأن لهم قيمة.
أولئك الذين عاشوا، وربما ماتوا وهم ينتظرون كلمة أحبك من أحد الآباء، ولكن كل ما سمعوه هو التقريع والسباب واللوم. كبروا ليصبحوا مشوهين من الداخل، يحملون عاهاتهم وآلامهم النفسية للأبد، ويتمنون لو أنهم لم يأتوا لهذه الحياة الظالمة. هؤلاء ضحايا أهاليهم، وربما كان أهاليهم أيضاً ضحايا لأسرٍ مماثلة!
نماذج كثيرة مرت علي في حياتي، لا زالوا يعانون بالرغم من اقترابهم من السبعين وخلفهم طابور من الأحفاد، ولكنهم حتى اليوم تبكيهم ذكرى تعرضهم للضرب أو الإهانة أمام الآخرين، وتؤلمهم مشاعر الحرمان من اللعب مع الأطفال أو امتلاك بعض الاحتياجات الأساسية.جراح الطفولة لا تزول. هي تكبر معهم، وتتجلى في مختلف المواقف والظروف. هؤلاء لم يستطيعوا يوماً الخروج من جلباب أبيهم ومع ذلك لم يتمكنوا من ارتداء ما يليق بهم. لا يمكنهم أن يعيشوا طبيعيين، تشّم الألم في كلامهم، وحتى في ضحكتهم أو صمتهم.
هؤلاء محاصرون بعقدهم النفسية التي لا سبيل للخلاص منها؛ لأنها تلتف حول ذاكرتهم وعقلهم وقلبهم. يخافون من الشفاء، بل حتى لا يفكرون فيه وربما لا يعلمون بأنهم مرضى! كثيرون منهم فقدوا الشغف، وفقدوا الشعور بالحياة، وتحولوا لأجساد تتجول بيننا بلا روح.هل تدرك معنى أن تتساوى الأيام في عينك! أن تعيش بلا طموح أو هدف أو أمل؟
كل هذه المعاناة هي وليدة الطفولة وما فعله الآباء في أبنائهم من إهمال، قسوة، حرمان، انشغال احتقار، تقصير، بخل في العاطفة والمال وغيرها.. كل هذه الأمور مجتمعة تشكل أفراداً مثقلين بالعقد، يعجزون عن تحقيق ذواتهم، فيؤذون أنفسهم ومن حولهم دون قصد.
لذلك أنصح من لا يستطيع أن يكون أباً صالحاً أو أماً حنونة أن يتوقفوا عن الإنجاب حتى لا تتكرر المأساة. من الظلم أن تحضر للعالم أطفالاً تعساء سيبقون طوال عمرهم يلومونك؛ لأنك أشقيتهم في الحياة. فالأبوة والأمومة ليست مجرد إنجاب، بل مسؤولية أخلاقية ونفسية عميقة.
ما أصدق المعري الذي عاش بعذاب طوال عمره بسبب العمى: وَأَرَحتُ أَولادي فَهُم في نِعمَةِ العَدَمِ! لقد أدرك المعري أنه لن يستطيع أن يمنح أبناءه الحياة التي يستحقونها. فهل تملك أنت أيضاً هذا الوعي لتوقف سلسلة العذاب المتوارث؟