منال كويتان

«هل ترين ما أراه، يا معلمتي؟»، همسها طفل في الصف الرابع، وهو يُطلّ من نافذة الصف نحو السماء، بعد أن تمكّن -ولأول مرة- من قراءة جملة كتبها بخط يده المرتجف، وبقلبه الذي ارتجف معه.

لم يكن يسألني عن الغيم، ولا عن زرقة السماء.. كان يسأل عن نفسه. عن قدرته. عن كينونته التي بدأت تظهر له للمرة الأولى، كما لو أنه رآها متجلّية في تلك السحابة.

منذ أن خُضت غمار التربية، معلمة ثم تدرجتُ في السلم الوظيفي إلى مديرة مدرسة، أدركت أن مهمتنا الكبرى لا تكمن في تعليم القراءة والكتابة والحساب فحسب، بل في تعليم الطفل كيف يرى نفسه، كيف يحتضن ذاته، كيف يشعر أنه جزء من هذا العالم.. له فيه مكان، وصوت، وحق.

- المدرسة ليست حجرة دراسية.. إنها حضنٌ للهوية:لسنا نصنع طلبة ناجحين فقط، بل نبني إنساناً يعرف من هو، ويثق بقدراته، ويفرق بين الصواب والخطأ، ويملك الشجاعة ليقول «لا» متى ما وجب، و«أنا هنا» متى ما غاب صوته.نحن نُربّي القلب قبل العقل، ونبني الضمير قبل الدرجات.

- بعض الانتصارات لا تُقاس بالعلامات:أتذكّر «جاسم»، الطفل الذي اعتاد تمزيق أوراقه الدراسية قبل أن يُسلّمها. لم يكن ساخطاً على المادة، بل على نفسه. كان يخاف من الفشل، فاختار أن ينسحب قبل أن يُجَرَّح.تحوّل جاسم لم يكن بفضل درس إضافي، بل بفضل علاقة إنسانية آمنة، ونظرة تؤمن به أكثر مما آمن هو بنفسه. قلت له مرة: «أنا أؤمن بك، حتى حين لا تفعل أنت»، فابتسم بخجل، وكأن الكلمات كانت المفتاح الذي فتح قفصه الصغير.

- التربية ليست تعليماً.. إنها صناعة الإنسان:الطفل كائنٌ ممتلئ بالأسئلة، بالمخاوف، بالأحلام الصغيرة المؤجلة. حين نراه بعين المربي، لا المُدرّس، ندرك أن كل تفاعل معه هو فرصة لصناعة مواطن مسؤول، يفكّر، يُبادر، ويتحمّل.ذاك الطفل الذي نعلّمه كيف يعتذر بصدق، كيف يُسامح بشجاعة، كيف يعبّر عن نفسه دون خوف، هو المواطن الذي سيبني مجتمعاً صحياً، متوازناً، يُنصت للآخر ويحترمه، دون أن يتنازل عن ذاته.

- بصمة نتركها.. لا تمحوها السنين:في خضم ما نواجهه من تحديات اجتماعية، وتغيّرات تربوية متسارعة، يبقى دورنا كمربين ثابتاً في جوهره: أن نكون حرّاساً للمعنى، وسقاةً للقيم، وحماةً لروح الطفل من أن تتيه وسط ضغط الأداء والأرقام.كل كلمة نطبطب بها على قلب طفل، كل نظرة احترام نوجّهها له، كل لحظة نستمع فيها إليه باهتمام صادق.. هي بذرة نغرسها في أرض الوطن.

- فليكن سؤالنا الدائم أمام كل اختبار وعلامة:«هل أصبح هذا الطفل أقرب ليكون إنساناً نافعاً، مواطناً صالحاً، روحاً يراها الآخرون ويسمعونها؟».إن كانت الإجابة «نعم».. فذلك هو الفرق الذي نصنعه، وذلك هو الأثر الذي يبقى، ويُنبت أجيالاً تعرف الطريق.