أ.د. جهان العمران

كثيراً ما ينشغل الإنسان بما ينقصه، ويغفل عن النعم التي بين يديه، فلا يشعر بقيمتها إلا إذا فقدها. يعيش وكأن ما عنده أمر بديهي، بينما يظن أن السعادة تكمن دائماً في ما لم يحصل عليه بعد. ومن المؤسف أن البعض لا يدرك أن الحياة مليئة بالخير والنعم، وأن أمامه فرصاً كثيرة يمكن أن تغير مجرى حياته لو التفت إليها، لكنه يعمي نفسه عنها، فيبقى أسير التذمر والمقارنة، ويشعر أن هناك شيئاً ينقصه دوماً، بينما يهمل أشياء يمتلكها بين يديه، ولكنه لا يراها الآخرون بعد فوات الأوان.

وهنا يصدق بيت الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد الذي عبر عن شوقه لمعشوقته التي لا يستطيع الوصول إليها رغم قربها منه، حين وصف نفسه قائلاً:كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء على ظهورها محمول

فالإبل في الصحراء قد تموت عطشاً رغم أن الماء محمول على ظهورها، لأنها لا تعي ما تحمله ولا تعرف كيف تنتفع به. حالها حال ذلك الإنسان الذي يعيش وسط النعم، ولا ينتبه إليها، أو لا يعرف كيف يوظفها لصالحه.

كم من شخص أنعم الله عليه بنعمة الصحة والعافية، لكنه يقضي وقته في التذمر من قلة المال أو فقر الحال، غير مدرك أن الصحة رأس مال لا يُشترى. وكم من شاب يملك الوقت والطاقة والحيوية، لكنه يبددها في لهوٍ وضياع في أمور تافهة كالمقاهي، والمولات، وصحبة رفاق السوء بدل أن يتعلم مهارة مفيدة، أو حرفة جديدة تساعده على تحقيق أحلامه، وبناء مستقبله.

وهناك من يعيش في وطن آمن، محاطا بالخدمات الصحية والتعليمية، وجميع مقومات الاستقرار والرفاه والحماية، ثم يقضي أيامه في الشكوى والتذمر، متناسياً أن غيره يتمنى أن ينام ليلة واحدة بلا خوف من حرب أو تجويع، أو تهجير.

حتى في تفاصيل الحياة البسيطة، ترى فتاةً تنشغل بمقارنة نفسها بصور زائفة عن الجمال المصطنع على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلانات التجارية، فتغفل عن جمالها الحقيقي، وقد ترى إحدى الأمهات تشتكي من صخب أطفالها متناسية أن ضحكاتهم وصراخهم وشقاوتهم نعمة سوف تفتقدها عندما يكبرون سريعاً ويغادرون البيت، فساعة الزمن لا تعود للوراء. وانظر كذلك إلى زوج يركض خلف فتيات صغيرات في عمر بناته، من أجل نزوات عابرة غير مبالٍ بوفاء زوجته التي أفنت حياتها من أجل مساندته، وأهدرت ربيع شبابها من أجل إسعاده، فنساها عندما أقبل خريف العمر.

وانظر كذلك إلى ذاك الصديق الذي ينكر فضل صديقه الوفي، ووقوفه معه أيام الشدة، فيتركه ليخوض علاقات سطحية لا تدوم مع أصحاب المصلحة والمنفعة الشخصية، حتى يخسره بعد أن يكون قد فات الأوان، ونفس الشيء ينطبق على ذاك الموهوب الذي يدفن قدراته تحت روتين خانق يخشى من المغامرة والانطلاق، وهو يملك مفتاح نجاحه بيديه.

المشكلة أن الإنسان يشعر بالنقص رغم الوفرة، ويعيش جائعاً وسط المائدة. ولو أنه تعود على رؤية ما بين يديه، ومارس الامتنان الحقيقي، لأدرك أن السعادة ليست فيما يفتقده، بل في قدرته على تقدير ما يملكه واستثماره قبل أن يخسره حين لا ينفع الندم.إن النعم حاضرة، لكن العطش باقٍ ما دمنا لا نعرف قيمتها، ولا نحسن استغلالها.

* أستاذة جامعية في علم النفس