إن الحديث الداخلي هو تلك الثرثرة المستمرة التي تدور في أذهاننا. يبدأ بوصف هذا الصوت، الذي يمكن أن يكون إيجابياً أو سلبياً، وتشير الدراسات النفسية إلى أننا قد نتحدث إلى أنفسنا بمعدل يصل إلى 4000 كلمة في الدقيقة. إنه ذلك الصوت الصامت الذي يرافقنا لحظة بلحظة، نادراً ما نلاحظه، لكنه يؤثر بعمق في مشاعرنا وتصرفاتنا.
وما أنا بصدده في هذا المقال هو ذاك الحوار الذي يدور في أذهان الناس العاديين مع أنفسهم، والذي قد يحمل في طياته عبارات تشجيع، أو جلد ذات، أو قلق، أو حتى سخرية. وما لا يدركه الكثيرون هو أن نوعية هذا الحديث تساهم في رسم ملامح صورتنا عن أنفسنا، وفي تشكيل سلوكنا تجاه تحديات الحياة.
عندما نقول لأنفسنا باستمرار «أنا لست جيداً بما يكفي» أو «سأفشل حتماً»، فإن عقولنا تبدأ بتصديق هذه العبارات، وتتفاعل على هذا الأساس. نشعر بالإحباط، نتردد في اتخاذ القرارات، ونفقد القدرة على المجازفة أو النمو. هذه الأصوات تصبح مثل قيود خفية تحد من قدراتنا، وتغلق أبواب الفرص أمامنا.
في المقابل، الحديث الإيجابي الواقعي لا يعني أن نخدع أنفسنا، أو ننكر الصعوبات، بل أن نتعامل معها بإيمان ومرونة. كأن نقول: «هذا صعب، لكنني أتعلم»، أو «أحتاج إلى وقت لأتحسن»، أو «ربما فشلت اليوم، لكن هذا لا يعني أنني فاشل». مثل هذه العبارات تحفّز مناطق الأمل والمرونة في عقولنا، وتمنحنا دفعة للاستمرار.
من الأمثلة البسيطة، طفل يتعلم ركوب الدراجة. إذا قال في نفسه: «أنا غبي، لا أستطيع»، سيفقد الحماس سريعاً. أما إذا قال: «سأحاول مرة أخرى»، فغالباً ما يستمر إلى أن ينجح. كذلك الطالب الذي يواجه صعوبة في مادة معينة، إن تحدث مع نفسه بلغة دعم، فسيسعى لتحسين مستواه دون أن تنهار ثقته بنفسه.
والخطوة الأولى في تغيير حديثنا الداخلي تبدأ بالوعي. أن نتنبه لما نقوله لأنفسنا، وأن نعيد صياغته بلغة فيها احترام وتفهّم. هذا ليس أمراً سهلاً في البداية، لكنه تمرين يمكن اكتسابه مع الوقت.
إن حديثك مع ذاتك إما أن يكون بوابة نحو النضج والثقة، أو سجناً من الشك والإحباط. فاختر كلماتك بعناية، ليكون مصيرك أحد الخيارين.
في النهاية، نحن فقط من نسمع حديثنا الداخلي، ونحن فقط نستطيع أن نوجهه لصالحنا وليس ضدنا. وإن لم نكن لأنفسنا سنداً، فمن يكون؟
* أستاذة جامعية في علم النفس