أرخى اسم دونالد ترمب بظلّه على الساحة السياسية منذ توليه الرئاسة الأميركية في عام 2017، ورغم أن اسم الرئيس الـ45 للولايات المتحدة لم يغب عن الساحة الداخلية، حتى بعد خسارته أمام الرئيس الحالي جو بايدن، إلا أنه عاد ليتصدّر العناوين العامة، مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، المرتقبة في نوفمبر المقبل.

وتثار تساؤلات حول مدى تأثير ترمب في هذه الانتخابات بشكل عام، وداخل الحزب الجمهوري بشكل خاص، في ظلّ انقسام حاد في الشارع الأميركي حول الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

وتؤدي محطات رئيسة في ولاية دونالد ترمب، دوراً مهماً في الانقسام الحاصل بشأنه، فشخصيته المثيرة للجدل، بالإضافة إلى محاولتَي عزله، ومؤخراً مصادرة "مكتب التحقيقات الفيدرالي" (إف بي آي) وثائق سرية من منزله في فلوريدا، تُعد الركائز نفسها التي يلجأ إليها مناهضو ترمب، ومناصروه، في صياغة مواقفهم منه.

ولم يظهر أي تبدّل جذري في المواقف من ترمب، إذ يتمسّك المعسكران الجمهوري والديمقراطي إلى حدّ بعيد، بموقفيهما من الرئيس السابق والمرشحين الذين يدعمهم لخوض معركة انتخابات الكونجرس.

وتُعتبر الانتخابات النصفية مرحلة حاسمة في السياسة الأميركية، لما لها من تأثير على المؤسسة التشريعية، مجلسي الشيوخ والنواب، فالسيطرة على الكونجرس تجعل أحد الطرفين يفرض سطوته على البرنامج السياسي للإدارة الأميركية.

وغالباً ما يوضع حزب الرئيس تحت المجهر، إذ أن الانتخابات النصفية بمثابة استفتاء على أداء الرئيس وإدارته، في النصف الأول من ولايته.

"عودة الجمهوريين"

السياسي الاستراتيجي والمرشح الجمهوري السابق لمجلس الشيوخ، روبرت أرليت، يرى في حديث لـ"الشرق" أنّ انتخابات نوفمبر ستمكّن الجمهوريين من "استعادة الأكثرية في مجلسَي الشيوخ والنواب، بفارق كبير عن نتائج الديمقراطيين"، وذلك "رداً على ما نتج عن إدارة بايدن من سياسات خاطئة، في ظلّ تضخم اقتصادي، وغلاء معيشي، وسياسة إنفاق غير مدروسة".

ويوافق رئيس قسم الأبحاث في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، باتريك كلاوسن، في حديث إلى "الشرق"، على أنّ "الأغلبية ستكون لمصلحة الجمهوريين بعد الانتخابات النصفية".

ويقول كلاوسن إنه لا يرى فوزاً بفارق كبير، مشكّكاً إلى حدّ بعيد بالإحصاءات ومؤشراتها، كما اعتبر أنّ إدارة بايدن استدركت بعض الملفات التي ستنعكس إيجاباً على شعبية الحزب الديمقراطي.

انقسام حاد

شكّلت محاولتا عزل ترمب في مجلس النواب، وأخيراً مداهمة "إف بي آي" لمنزله في بالم بيتش بولاية فلوريدا، "انقساماً حاداً" داخل الولايات المتحدة.

ويعتبر الدبلوماسي الأميركي السابق نبيل خوري، في حديث لـ"الشرق"، أنّ "التشكيك بنزاهة انتخابات 2020، ووصف الرئيس جو بايدن بأنه غير شرعي، شكّلا نقطة مفصلية على مستوى تحويل الخلاف السياسي إلى الشارع".

وأضاف: "ما شهدناه في 6 يناير، وانجرار الشارع للعنف يُعدّ منعطفاً خطراً، بسبب التشكيك في المؤسسات الدستورية"، في إشارة إلى اقتحام أنصار لترمب مبنى الكابيتول، ومحاولتهم منع المشرعين من المصادقة على فوز بايدن بالرئاسة.

ويرى خوري أنّ "التهديد بالعنف ضد مكتب التحقيقات الفيدرالي (بعد مداهمة منزل ترمب) مؤشر خطر على مستوى السياسة بشكل عام، ويوحي بعدم تقبّل المؤسسة الديمقراطية، وأهم عناصرها الانتخابات الحرة من جهة، والتحقيقات القضائية من جهة أخرى".

وفي وقت يقلّل باتريك كلاوسن من حدة الانقسام القائم، معتبراً أنه "جزء من اللعبة السياسية"، لا ينفي أرليت تخوّفه من أحداث عنف في الشارع "في حال استمرت الادعاءات الوهمية والاستهداف الظاهر لترمب"، وفق قوله.

ويذكّر أرليت بأن "العنف ليس جديداً، وفي أحيان كثيرة أُحرقت مدن وجرى الاعتداء على مراكز للشرطة، لكن الديمقراطيين لا يذكرون هذه الأحداث في خطاباتهم"، مضيفاً: "على الحزبين نبذ العنف بشكل نهائي والدعوة إلى الحفاظ على القانون والمؤسسات".

"سيف ذو حدين"

صحيح أن الانتخابات النصفية الأميركية تركّز بشكل أكبر على السياسات الداخلية والاقتصادية للإدارة الحالية، إلا أنها تشكّل أيضاً مؤشراً مهماً على مسار الانتخابات الرئاسية، لا سيّما من حيث كونها فرصة لجسّ نبض الناخب الأميركي، بشأن أسماء كثيرة تطمح إلى خوض السباق في عام 2024.

وعن احتمال سيطرة الجمهوريين على مجلسَي الشيوخ والنواب، يعتبر خوري أن نفوذ ترمب داخل الحزب "بات سيفاً ذو حدين"، مستشهداً بما حصل مع خسارة النائبة ليز تشيني في الانتخابات التمهيدية للجمهوريين بولاية وايومنج.

ويوضح أن "خسارة تشيني هي خسارة للحزب التقليدي أمام دونالد ترمب، ومن شأنها أن تعزّز الخوف من ترمب لدى الجمهوريين، فلا يتجرأ أحد على معارضته داخل الحزب".

ويذهب خوري إلى حدّ القول إن "الحزب الذي أنتج أبراهام لينكولن، موحّد أميركا، بات اليوم في جيب دونالد ترمب".

معارضة ترمب

كلام الدبلوماسي الأميركي السابق نبيل خوري يؤكده جو عام يتمثل بصعوبة الحصول على تعليق مناهض لسياسة ترمب من سياسيين جمهوريين، ويمتد حتى للمحللين السياسيين المقربين من الحزب الجمهوري.

وغالباً ما يأتي الجواب إما بالاعتذار عن التعليق، أو بالقول: "لن يجرؤ أحد على معاداة ترمب علناً، خصوصاً وأنه أثبت مدى تأثيره على الناخب الجمهوري، إلى حد يمكنه القضاء على المستقبل السياسي لأي مرشح يقف في مواجهته داخل الحزب".

ويكاد الصوت المجاهر بمعارضة ترمب داخل الحزب الجمهوري يختفي مقتصراً على القليلين، الذين يعتبرون أنّ ترمب "خطر على الحزب الجمهوري وقيمه"، وأنّه يجب فعل "كل ما يلزم" لئلا يُنتخب رئيساً مجدداً، على غرار ليز تشيني التي خسرت المنافسة أخيراً، والسيناتور ميت رومني الذي يحافظ على مركزه بالاستناد إلى طائفة "المورمون".

"جوهر المشكلة"

ويعتبر غالبية الجمهوريين أنّ المعارضين لترمب هم "المشكوك بمدى ولائهم للحزب"، وأنّهم ليسوا جمهوريين بالقدر الكافي، ويطلقون عليهم اسم "راينو" (جمهوريون بالاسم فقط).

ويرى المرشح الجمهوري السابق روبرت أرليت، أن "من الطبيعي تحوّل ترمب إلى نجم في الحزب الجمهوري"، مؤكداً أنّ الأمر "أكبر من الديمقراطيين والجمهوريين"، وأنّ المشكلة تكمن في "انعدام ثقة الشعب الأميركي بحكومته، منذ أكثر من خمس أو ست سنوات، بسبب الادعاءات المتكررة ضد الرئيس ترمب مرة تلو أخرى، بداية من اتهامه بالتآمر مع روسيا ثم اتهامه بمحاولة تنفيذ انقلاب، ووصولاً إلى مداهمة منزله بوساطة مكتب التحقيقات الفيدرالي".

ويرى أرليت أنّ "جوهر المشكلة يكمن في تآمر الدولة العميقة وشركات التكنولوجيا والإعلام، التي تسعى إلى تقويض حرية التعبير، ضدنا نحن الشعب، وهذا ما أراه حقيقة ملموسة".

ويتطرّق أرليت إلى نجل بايدن، هانتر، ومسألة حاسوبه الشخصي وتكهنات بشأن صفقاته في دول أخرى، متسائلاً عمّا آل إليه التحقيق بشأن "الكمبيوتر المحمول لهانتر بايدن"، وما حدث بخصوص "الرسائل الإلكترونية لهيلاري كلينتون"، بعد اتهامها باستخدام خادم شخصي خلال تولّيها حقيبة الخارجية.

ورأى أن استهداف ترمب المستمر ينقلب حتماً لمصلحته، وهذا ما "نشهده بشكل شبه يومي في الانتخابات التمهيدية"، وفق قوله.

ترمب مرشحاً في 2024؟

بعدما خسرت ليز تشيني في وايومنج، تعهدت بأن "تقوم بكل ما يلزم" لئلا يُنتخب ترمب رئيساً مجدداً.

وليز واحدة من 10 نواب جمهوريين صوّتوا ضد ترمب خلال محاولة عزله، وواجهوا منافسة شرسة في صفوف الحزب، قبيل انتخابات التجديد النصفي، وكانوا هدفاً لحملة انتقامية منظمة من مرشحين يدعمهم الرئيس السابق ترمب.

وحتى الآن، أعلن 4 من النواب العشرة عن تقاعدهم، بدلاً من خوض الانتخابات التمهيدية في الحزب للحفاظ على مقاعدهم، بينما خسر 4 آخرون الانتخابات داخل الحزب الجمهوري أمام مرشحين مدعومين من ترمب.

ويتوقع أن تخوض ليز، الابنة الكبرى لنائب الرئيس السابق ديك تشيني، غمار المنافسة أمام ترمب للحصول على بطاقة الترشح لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة عن الحزب الجمهوري في عام 2024.

ويبرز أيضاً رون ديسانتيس، حاكم ولاية فلوريدا، كالاسم الأكثر تداولاً لمنافسة ترمب على معركة 2024 الرئاسية داخل الحزب، إذ أن ديسانتيس غالباً ما يتمايز عن ترمب من دون تحويل المعركة إلى شخصية.

"لا نجم ديمقراطياً"

الدبلوماسي الأميركي السابق نبيل خوري يرى أنّه "من المبكر الكلام عن ترشح ترمب في عام 2024، لأنّه من المحتمل أنّ يلجأ الديمقراطيون إلى محاولة عزله للمرة الثالثة"، مضيفاً: "في حال حدوث هذه المحاكمة، فإنه سيخسر حق الترشح لهذه الانتخابات، وإذا ثبُتت التهم الموجهة إليه من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي، فإن ذلك قد يؤدي إلى سجنه".

لكن خوري يشير إلى مشكلة، تكمن في عدم وجود "نجم ديمقراطي حقيقي حتى الآن لمواجهة ترمب، في حال ترشحه"، متمنياً أن يستدرك الحزبان خطورة عودة ترمب إلى الحكم، وأنّ يقدّما شخصيات قادرة على المنافسة.

ولا يُخفي خوري مخاوفه من هذا التحوّل، من مناصرة البرامج السياسية الحقيقية إلى مناصرة شخصيات، مثل ترمب، معتبراً أنّه ليس تحوّلاً ضد الحزب الجمهوري فحسب، ولكن ضد الولايات المتحدة ككل.

ويضيف: "على مرّ فترة عملي في الخارجية الأميركية مع إدارات مختلفة من الجمهوريين والديمقراطيين، لم أشهد أي تحدّ للمؤسسات الدستورية، كما حصل ويحصل مع دونالد ترمب".

بدوره يعتبر الزميل الأقدم في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، ديفيد بولوك، في تعليق لـ"الشرق"، أنّه "على رغم التأثير الكبير لترمب داخل الحزب الجمهوري، وانعكاسه الواضح على مرشحي الحزب، إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أنّ ترمب سيكون مرشح الحزب في عام 2024".

وأشار إلى أنّه في حال ثبوت التهم الموجّهة إليه من "إف بي آي"، فإنّ ذلك سيؤدي إلى ابتعاد الناخبين عنه.

أما باتريك كلاوسن، فيقول: "شخصياً أتمنّى ألا يترشح الرئيسان ترمب وبايدن لانتخابات 2024، لكن الأنا المتضخّمة التي يعاني منها ترمب، ستمنعه من عدم خوض الانتخابات، تماماً مثل بايدن الذي انتظر الرئاسة طيلة 14 عاماً ولن يتخلّى عنها الآن".

في المقابل، يرى روبرت أرليت أنّ ترمب حتماً سيخوض انتخابات 2024 "حفاظاً على نزاهة الانتخابات وحرية التعبير، وهذه هي المعركة الحقيقية التي يخوضها الرئيس السابق".

ويضيف أرليت: "لا يزال الرئيس ترمب أكثر السياسيين تأثيراً، ليس في الداخل الأميركي فحسب، ولكن على الصعيد العالمي أيضاً، ولن أبالغ إذا ما قلت إنه أكثر تأثيراً من الرئيس بايدن شخصياً".

ويؤدي عامل الوقت دوراً أساسياً في انتخابات 2024، إذ أنّ ترمب سيبلغ من العمر 78 عاماً، وهو عمر بايدن عندما تولّى الرئاسة، وكان كثيرون من الجمهوريين انتقدوا عامل السنّ، معتبرين أنّ بايدن أكبر من أن يتولّى المنصب.