كيف سعى أنصار "خط الإمام" لفرض رؤيتهم على حوزة "قم"؟ ومن هي أبرز الشخصيات التي عارضت ذلك؟
العربية.نت
وفاة المرجع الديني السيد محمد صادق الروحاني، الذي غيبه الموتُ في مدينة قم الإيرانية، الجمعة 16 ديسمبر الجاري، تعيدُ طرح سؤالٍ عن ماهية العلاقة بين المرجعيات الدينية للمسلمين الشيعة، ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وإذا ما كانت هذه المرجعيات على رأي واحد، أم هنالك تباينات فقهية وثقافية وحتى سياسية بينها وبين النظام الحاكم، الذي دشنته عودة السيد روح الله الموسوي الخميني، من فرنسا إلى إيران، العام 1979، ليؤسس دولة تقوم على مبدأ "ولاية الفقيه العامة"، وهو المنصب الذي خلفه فيه المرشد الحالي السيد علي الخامنئي، بعيد وفاة الخميني سنة 1989.
الفقيه الناقدُ!
يمكن وصف السيد محمد صادق الروحاني، بأنه "فقيه صلب" في مواقفه الناقدة لسياسات النظام في إيران، ويتضح ذلك من خلال مراجعة أجوبته على بعض المسائل الفقهية التي وردت إليه، ونشرت في موقعه الإلكتروني.
حين سُئل الروحاني "ما هو أصل خلافكم مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟"، أجاب بما نصهُ "أنا أحد الركنين الأساسيين لإسقاط الحكومة الاستبدادية اللادينية بل المعاندة للدين والحرية (حكومة الشاه)، وقد قضيت عدة سنوات في ذلك الزمان في الإبعاد والسجن، وكنت أنقل من سجن إلى سجن وأبَعَّدُ إلى بلاد حارة في الصيف وباردة جداً في الشتاء بجرم الدفاع عن الإسلام والدين والسعي لتشكيل الحكومة الإسلامية. وأنا أول من كتب رسالة نظام الحكومة في الإسلام قبل السيد الخميني. ولكن بعد تشكيل الحكومة الإسلامية دخل جماعة فاسدة مفسدة في الحكومة واشتعلت الحرب ومرض السيد وأرادوا إخراج الحكومة الإسلامية الشيعية من مسيرها إلى حكومة إسلامية غير شيعية، فلذلك كلّه شرعت في المعارضة ونجحت بحمد الله ومنّته".
إذن محمد صادق الروحاني، يعتبر نفسه أحد آباء الثورة الإيرانية، وأن له يداً في إسقاط نظام الشاه الراحل محمد رضا بهلوي، خصوصاً أنه يعتقد أن "الولاية بمعنى كون الفقيه حاكماً على الأمة الإسلامية – كحكومة سائر الرؤساء والملوك – حق ثابت للفقيه"، بحسب ما ورد في موقعه الإلكتروني؛ أي أنه يُقر تدخل الفقيه في العمل السياسي والحكومي، على العكس من آراء فقهاء آخرين من مدرسة أستاذه المرجع الراحل السيد أبو القاسم الخوئي، والذي كان يرى أن "الولاية على الأمور الحسبية كحفظ أموال الغائب واليتيم إذا لم يكن من يتصدى لحفظها كالولي أو نحوه، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط وكذا الموقوفات التي ليس لها متولٍّ من قبل الواقف والمرافعات، فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه وأمثال ذلك، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء على عدم الثبوت"، كما جاء في أجوبة الاستفتاءات في كتاب "صراط النجاة".
العنف السياسي!
الخلاف بين الروحاني والخميني، وتالياً خامنئي من بعده، كان فيه الروحاني صلباً ومتشدداً، حدَ أنه أجاز استخدام "العنف في الصراع السياسي"، حيث نُشرَ في موقعه الإلكتروني، ما نصهُ "تشكيل الحكومة الإسلامية أمر لا إشكال في مطلوبيته. وما دامت الحكومة الإسلامية سائرة على الطريق المستقيم لا ريب في عدم جواز استعمال أسلوب العنف على أحد. ولكن لو انحرفت عن الطريق المستقيم، إما بالتعامل مع الاستكبار على الأمة الإسلامية، وإما بجعل قوانين خلاف القوانين الشرعية، وإما بغير ذلك مما لا يتلاءم مع الشريعة، فعلى كل أحد سيما العلماء الإرشاد وإظهار العلم {إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، وإلا فعليه لعنة الله} وإن لم يؤثّر وتوقف النهي عن المنكر على استعمال العنف يجب ذلك، ففي الحديث النبوي المروي عند الفريقين: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، أو إمام جائر، أو أمير جائر، وعلى ذلك فاستعمال العنف في الصراع السياسي إن كان لما ذكرناه فهو جائز وقد يجب، وأما إذا لم ينطبق عليه ما ذكرناه فلا يجوز". أي أن الروحاني كان أحد المنظرين لحكم رجال الدين وفق فتواه أعلاه، ولمنهجية قائمة على تصور يراه كثيرون غير منسجم مع تطورات العصر، ولا يتوافق وروح الدولة المدنية التي يتطلع لها الكثير من الإيرانيين المناوئين لـ"ولاية الفقيه".
بدايات الخلاف!
البعض يرجع هذا الاختلاف العميق إلى شعور بـ"الخديعة" اعتمرَ المرجع محمد صادق الروحاني، خصوصاً بعد أن تحدث في وقت مبكر من ثمانينات القرن الماضي، مطالباً بضم البحرين إلى إيران، وهي التصريحات التي أثارت امتعاض الحكومة البحرينية ودول الخليج العربية، وأثارت المخاوف من الأطماع التوسعية الإيرانية، إلا أن الروحاني وجد الحكومة الرسمية الإيرانية تتنصل من تصريحاته، بعد موجة الانتقادات التي طالته، ولذا أحسَ أنه تم "استغفاله"، بحسب شخصية على معرفة به، لتتراكم تالياً التباينات بينه وبين النظام الحاكم، والتي بلغت الصدام بين الطرفين، ووضعه فيما يشبه "الإقامة الجبرية"، وهي المرحلة التي تحدث عنها الروحاني بقوله "أتعلمون أني من زمان بعيد في حالة الحرب مع الحكومة السابقة والحكومة الفعلية، بالنسبة إلى كل ما أراه مخالفا للشرع والشريعة، ولذلك قضيت أكثر من خمس وعشرين سنة من عمري في الحبس والحصر في المنزل، والتبعيد من بلد إلى آخر، مع أنواع التعذيب مما لا يتصوره أحد".
التأبين الرسمي!
رغم هذه العلاقة الشائكة مع مؤسسات الدولة في إيران، إلا أن محمد صادق الروحاني حين وافته المنية في مدينة "قم" حيث الحوزة العلمية، أبّنه مرشد الثورة علي خامنئي، وبحسب ما نقلته "وكالة مهر للأنباء"، فإنه "قدم قائد الثورة الإسلامية التعازي بوفاة المغفور له آية الله الحاج السيد صادق الروحاني، لأسرته الكريمة وطلبة ذلك الفقيه الكريم ومحبيه، داعيا الباري تعالى بأن يمن على الفقيد الراحل بالرحمة والغفران".
أكثر من ذلك، حصل الروحاني على تشييع مهيب شارك فيه حشد واسع من أساتذة وطلاب الحوزة العلمية وعدد من المسؤولين الحكوميين. بل تم تخصيص قبرٍ له يوارى فيه، داخل "حرم السيدة فاطمة المعصومة"، وهو مزار ديني يقصده سنوياً ملايين المسلمين الشيعة.
بين الأخوين!
المرجع صادق الروحاني، مرت مراسم جنازته بهدوء، على عكس أخيه الراحل السيد محمد الحسيني الروحاني، أحد أبرز تلاميذ السيد أبو القاسم الخوئي؛ والذي تسنم منصب المرجعية بُعيد رحيل أستاذه. إلا أن الروحاني عندما وافته المنية العام 1997، تم منع دفن جثمانه في "حرم السيدة المعصومة"، ودفن في منزله، بسبب موقف النظام منه، كون الروحاني لم يكن على وفاق مع مؤسس الثورة السيد الخميني، منذ كان الخميني يلقي بحوثه عن "الحكومة الإسلامية" في مدينة النجف العراقية، كما أن أنصار "خط الإمام"، أشاعوا عن الروحاني أنه كان عميلاً لجهاز "السافاك" إبانَ العهد الملكي، وهي التهمة التي ينفيها عنه أخوه محمد صادق، قائلاً "ما نسب إلی أخي الأکبر السید محمد (قده) کذب محض، لا نصيب له من الواقع".
هنالك تذمر واسع لدى الناس من الصورة السيئة التي قدمتها الحكومة وأدائها غير المرضي شعبيا، والذي انعكس تالياً ليشمل مختلف رجال الدين، حتى المناوئين منهم للنظام أو البعيدين عنه
مدافنُ المراجع!
ليس محمد الحسيني الروحاني الوحيد من مراجع الدين للمسلمين الشيعة الذي دفن في منزله. فالسيد محمد الشيرازي، الذي توفي العام 2001، شهدت جنازته جدلاً كبيراً، وصدامات بين مؤيديه وأفراد من "الحرس الثوري"، حيث ووري الشيرازي تالياً في مكان آخر، خلافاً لوصيته. وبحسب مصدر تحدثت معه "العربية.نت"، قال إن "المرجع الشيرازي أوصى بأن يدفن في منزله، وأن ينقل تالياً جثمانه إلى مدينة كربلاء العراقية".
يشارُ إلى أن الشيرازي، الذي يعتبر أحد الآباء المؤسسين لـ"الإسلام الحركي الشيعي"، كان في بدايات الثورة الإيرانية من المؤيدين لها، قبل أن يتحول تالياً لأحد أبرز نقادها.
الشيخ حسين علي منتظري، الذي كان خليفة الخميني، قبل أن يتم عزله 1989، وفرض الإقامة الجبرية عليه؛ حينما توفي لاحقاً، دُفن في "حرمِ السيدة فاطمة المعصومة" بمدينة قم، رغم تحوله لأحد المرجعيات الأكثر نقدانية لطريقة الحكم في إيران. إلا أن العُرفَ قد جرى على أن يُدفن المراجع الدينيون باحترام، وفي داخل محيط "مقامِ المعصومة"، وكان النظام حينها لا يريد الصدام مع "التيار الإصلاحي" المؤيد لمنتظري.
الإصلاحيون، وبعد موت منتظري، اختاروا شخصية لها تأريخ ثوري من أنصار الخميني، ليكون بمثابة الفقيه للتيار، وهو الراحل الشيخ يوسف صانعي، وهو فقيه قريب من نهج رئيس الجمهورية السابق محمد خاتمي، وله مواقف ناقدة للتيار "المحافظ" ولمرشد الثورة علي خامنئي.
الانحناء للعاصفة!
بالعودة إلى السيد محمد صادق الروحاني، فإن المراقبين يرجعون التعامل الإيجابي من الجهات الرسمية في إيران مع مراسم جنازته، رغم مواقفه الناقدة الصريحة لـ"الجمهورية الإسلامية"، إلى عدم رغبة النظام في الصدام مع شريحة واسعة من الأساتذة وطلبة العلوم الدينية في "حوزة قم"، حيث كان الروحاني أحد أبرز أساتذتها، بشهادة شخصيات كالرئيس السابق للسلطة القضائية في إيران، السيد محمود الشاهرودي، والذي يرى أن "الأخوين الصادقين هما الأعلم بعد رحيل السيد الخوئي"، بحسب ما روى مصدرٌ مطلعٌ لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت".
التظاهرات الشعبية الواسعة التي شهدتها إيران، والسخط المتزايد اجتماعياً واقتصادياً لدى المواطنين، دفع بعدد من علماء الحوزة إلى مطالبة الحكومة بأهمية الاستماع لـ"صوت الشعب".
فعقبَ مقتل الشابة مهسا أميني، سبتمبر الماضي، ندد المرجع أسد الله بيات زنجاني بكل "السلوكيات والأحداث" التي كانت وراء "هذا الحادث المؤسف"، واصفاً إياها بأنها "غير مشروعة" و"غير قانونية"، ومضيفاً "القرآن يمنع بوضوح المؤمنين من استخدام القوة لفرض القيم التي يعتبرونها دينية وأخلاقية".
حتى مرجعيات مؤيدة للثورة، مثل الشيخ حسين نوري همداني، كانت لهم مواقف لافتة، حيث قال إن "القادة عليهم أن يصغوا لمطالب الشعب وأن يحلوا مشاكله وأن يبدوا اكتراثا بحقوقه".
كما أن مرجعاً آخر مناصرٌ للنظام، كالشيخ عبد الله جوادي آملي، صرح في يونيو الماضي، بأن "العمود الفقري للشعب هو ثروة البلاد، وإذا لم یستطع الحفاظ على عموده الفقري فهو فقير؛ كُسر عموده الفقري". مبيناً أن "الشعب الذي يعاني من كسر في عموده الفقري لا يملك القوة للنهوض".
رفض التبعية!
السرد التاريخي السابق، والمواقف المختلفة لمرجعيات دينية عدة بـ"حوزة قم" تظهر أن هذه الشخصيات في غالبيتها، ترفض أن تستتبع "الحوزة" بالنظام الحاكم، حتى ولو كان إسلامياً ويرأسه رجل دين، فهم يرون ضرورة استقلال الحوزة وحفاظها على مسافة تفصلها عن السلطات الرسمية، وهو موقف تجده أيضاً لدى شخصيات مؤيدة لـ"الجمهورية الإسلامية".
مرجعيات كالراحل الشيخ جواد التبريزي، وأيضاً الشيخ وحيد الخراساني الذي يعد اليوم أحد أبرز أساتذة الحوزة العلمية، ورغم عدم وجود مواقف عدائية علنية منهما ضد النظام الحاكم، إلا أنهما لديهما وجهات نظر مستقلة، وهما فقهياً لا يقرانِ بمبدأ "ولاية الفقيه المطلقة"، بل ينتميانِ لمدرسة لا تؤيد انخراط علماء الدين في العمل السياسي والحزبي.
التبريزي والخراساني، ولكونهما مواطنين إيرانيين، فقد تبنيا منهجاً يحافظ على السلم الأهلي، والنظام العام، ويمنع الفوضى أو العنف، وركزا على أهمية حفظ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وأيضاً استقلال الحوزة العلمية وعدم تحولها لأداة بيد أنصار "خط الإمام".
مدرسة النجف!
هذه الآراء، إذا عاد المتابع إلى ستينيات القرن الميلادي المنصرم، سيجد لها جذوراً في مواقف المرجعيات الدينية وكبار أساتذة الحوزة العلمية في "النجف". ففي الوقت الذي كان يلقي فيه السيد روح الله الموسوي الخميني دروسه الفقيه وخطبه السياسية في النجف، وتأتيه وفود المؤيدين من إيران، كانت مرجعيات وازنةٌ لها حضور علمي وشعبي كبير، كالسيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محمود الشاهرودي، متحفظة على النهج السياسي للخميني، بل إن بعضهم كان يحذر تلامذته من أفكار صاحب "الحكومة الإسلامية"، وينصحهم بالابتعاد عنها، دون أن ينكروا على الخميني فقاهته أو مرجعيته الدينية؛ إلا أن المنهج الذي كانت حوزة النجف تتبعهُ حينها، والممتد لعقود خلت، يستنكفُ العمل السياسي أو انخراط علماء الدين في الأحزاب أو تسنمهم المناصب الرسمية، ويرون في ذلك "شراً كبيراً"!
فرصة للتحرر!
الباحث المختص في الشأن الإيراني، حسن فحص، وفي ورقة نشرها موقع "إندبندينت عربية"، 15 ديسمبر الجاري، بعنوان "محطات على طريق إيران الطويل"، أشار فيها إلى أن "ما يحدث وما يتعرض له موقع الولي الفقيه فرصة لاستعادة هامش الاستقلال الذي كانت تتمتع وتتميز به الحوزة العلمية، بالتالي الخروج من الإطار الذي سبق ورسمه المرشد لهذه الحوزات". وهذا الأمر يتضح من خلال تحميل عدد من أساتذة الحوزة العلمية، أجهزة النظام، "مسؤولية حال عدم الاحترام وإهانة العمامة التي واجهت عدة علماء دين في الشارع العام"، وفق ما عبر عنه لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت" مصدرٌ مطلعٌ، مضيفاً "هنالك تذمر واسع لدى الناس من الصورة السيئة التي قدمتها الحكومة وأدائها غير المرضي شعبيا، والذي انعكس تالياً ليشمل مختلف رجال الدين، حتى المناوئين منهم للنظام أو البعيدين عنه".
وعليه، فإن العلاقة بين الحوزة العلمية في قم، والنظام الحاكم في إيران، لا تتسم بالتبعية والطاعة المطلقة، بل هنالك مد وجزر طوال أكثر من أربعين عاماً، سعى خلالها أنصار "خط الإمام" لمحاولات تسييس وتثوير الحوزة، فيما بقيت المرجعيات التقليدية سداً منيعاً أمامهم، دفع ثمن ذلك شخصيات كثيرة، بين من نُزعَ زيه الديني كالراحل السيد كاظم شريعة مداري، أو ضيق عليه نطاق حركته كالسيد حسن القمي؛ فيما حظي المؤيدون لأفكار السيد الخميني بهامش أرحب في العمل والتدريس كالراحل الشيخ الفاضل لنكراني والشيخ ناصر مكارم شيرازي.
العربية.نت
وفاة المرجع الديني السيد محمد صادق الروحاني، الذي غيبه الموتُ في مدينة قم الإيرانية، الجمعة 16 ديسمبر الجاري، تعيدُ طرح سؤالٍ عن ماهية العلاقة بين المرجعيات الدينية للمسلمين الشيعة، ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وإذا ما كانت هذه المرجعيات على رأي واحد، أم هنالك تباينات فقهية وثقافية وحتى سياسية بينها وبين النظام الحاكم، الذي دشنته عودة السيد روح الله الموسوي الخميني، من فرنسا إلى إيران، العام 1979، ليؤسس دولة تقوم على مبدأ "ولاية الفقيه العامة"، وهو المنصب الذي خلفه فيه المرشد الحالي السيد علي الخامنئي، بعيد وفاة الخميني سنة 1989.
الفقيه الناقدُ!
يمكن وصف السيد محمد صادق الروحاني، بأنه "فقيه صلب" في مواقفه الناقدة لسياسات النظام في إيران، ويتضح ذلك من خلال مراجعة أجوبته على بعض المسائل الفقهية التي وردت إليه، ونشرت في موقعه الإلكتروني.
حين سُئل الروحاني "ما هو أصل خلافكم مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟"، أجاب بما نصهُ "أنا أحد الركنين الأساسيين لإسقاط الحكومة الاستبدادية اللادينية بل المعاندة للدين والحرية (حكومة الشاه)، وقد قضيت عدة سنوات في ذلك الزمان في الإبعاد والسجن، وكنت أنقل من سجن إلى سجن وأبَعَّدُ إلى بلاد حارة في الصيف وباردة جداً في الشتاء بجرم الدفاع عن الإسلام والدين والسعي لتشكيل الحكومة الإسلامية. وأنا أول من كتب رسالة نظام الحكومة في الإسلام قبل السيد الخميني. ولكن بعد تشكيل الحكومة الإسلامية دخل جماعة فاسدة مفسدة في الحكومة واشتعلت الحرب ومرض السيد وأرادوا إخراج الحكومة الإسلامية الشيعية من مسيرها إلى حكومة إسلامية غير شيعية، فلذلك كلّه شرعت في المعارضة ونجحت بحمد الله ومنّته".
إذن محمد صادق الروحاني، يعتبر نفسه أحد آباء الثورة الإيرانية، وأن له يداً في إسقاط نظام الشاه الراحل محمد رضا بهلوي، خصوصاً أنه يعتقد أن "الولاية بمعنى كون الفقيه حاكماً على الأمة الإسلامية – كحكومة سائر الرؤساء والملوك – حق ثابت للفقيه"، بحسب ما ورد في موقعه الإلكتروني؛ أي أنه يُقر تدخل الفقيه في العمل السياسي والحكومي، على العكس من آراء فقهاء آخرين من مدرسة أستاذه المرجع الراحل السيد أبو القاسم الخوئي، والذي كان يرى أن "الولاية على الأمور الحسبية كحفظ أموال الغائب واليتيم إذا لم يكن من يتصدى لحفظها كالولي أو نحوه، فهي ثابتة للفقيه الجامع للشرائط وكذا الموقوفات التي ليس لها متولٍّ من قبل الواقف والمرافعات، فإن فصل الخصومة فيها بيد الفقيه وأمثال ذلك، وأما الزائد على ذلك فالمشهور بين الفقهاء على عدم الثبوت"، كما جاء في أجوبة الاستفتاءات في كتاب "صراط النجاة".
العنف السياسي!
الخلاف بين الروحاني والخميني، وتالياً خامنئي من بعده، كان فيه الروحاني صلباً ومتشدداً، حدَ أنه أجاز استخدام "العنف في الصراع السياسي"، حيث نُشرَ في موقعه الإلكتروني، ما نصهُ "تشكيل الحكومة الإسلامية أمر لا إشكال في مطلوبيته. وما دامت الحكومة الإسلامية سائرة على الطريق المستقيم لا ريب في عدم جواز استعمال أسلوب العنف على أحد. ولكن لو انحرفت عن الطريق المستقيم، إما بالتعامل مع الاستكبار على الأمة الإسلامية، وإما بجعل قوانين خلاف القوانين الشرعية، وإما بغير ذلك مما لا يتلاءم مع الشريعة، فعلى كل أحد سيما العلماء الإرشاد وإظهار العلم {إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، وإلا فعليه لعنة الله} وإن لم يؤثّر وتوقف النهي عن المنكر على استعمال العنف يجب ذلك، ففي الحديث النبوي المروي عند الفريقين: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر، أو إمام جائر، أو أمير جائر، وعلى ذلك فاستعمال العنف في الصراع السياسي إن كان لما ذكرناه فهو جائز وقد يجب، وأما إذا لم ينطبق عليه ما ذكرناه فلا يجوز". أي أن الروحاني كان أحد المنظرين لحكم رجال الدين وفق فتواه أعلاه، ولمنهجية قائمة على تصور يراه كثيرون غير منسجم مع تطورات العصر، ولا يتوافق وروح الدولة المدنية التي يتطلع لها الكثير من الإيرانيين المناوئين لـ"ولاية الفقيه".
بدايات الخلاف!
البعض يرجع هذا الاختلاف العميق إلى شعور بـ"الخديعة" اعتمرَ المرجع محمد صادق الروحاني، خصوصاً بعد أن تحدث في وقت مبكر من ثمانينات القرن الماضي، مطالباً بضم البحرين إلى إيران، وهي التصريحات التي أثارت امتعاض الحكومة البحرينية ودول الخليج العربية، وأثارت المخاوف من الأطماع التوسعية الإيرانية، إلا أن الروحاني وجد الحكومة الرسمية الإيرانية تتنصل من تصريحاته، بعد موجة الانتقادات التي طالته، ولذا أحسَ أنه تم "استغفاله"، بحسب شخصية على معرفة به، لتتراكم تالياً التباينات بينه وبين النظام الحاكم، والتي بلغت الصدام بين الطرفين، ووضعه فيما يشبه "الإقامة الجبرية"، وهي المرحلة التي تحدث عنها الروحاني بقوله "أتعلمون أني من زمان بعيد في حالة الحرب مع الحكومة السابقة والحكومة الفعلية، بالنسبة إلى كل ما أراه مخالفا للشرع والشريعة، ولذلك قضيت أكثر من خمس وعشرين سنة من عمري في الحبس والحصر في المنزل، والتبعيد من بلد إلى آخر، مع أنواع التعذيب مما لا يتصوره أحد".
التأبين الرسمي!
رغم هذه العلاقة الشائكة مع مؤسسات الدولة في إيران، إلا أن محمد صادق الروحاني حين وافته المنية في مدينة "قم" حيث الحوزة العلمية، أبّنه مرشد الثورة علي خامنئي، وبحسب ما نقلته "وكالة مهر للأنباء"، فإنه "قدم قائد الثورة الإسلامية التعازي بوفاة المغفور له آية الله الحاج السيد صادق الروحاني، لأسرته الكريمة وطلبة ذلك الفقيه الكريم ومحبيه، داعيا الباري تعالى بأن يمن على الفقيد الراحل بالرحمة والغفران".
أكثر من ذلك، حصل الروحاني على تشييع مهيب شارك فيه حشد واسع من أساتذة وطلاب الحوزة العلمية وعدد من المسؤولين الحكوميين. بل تم تخصيص قبرٍ له يوارى فيه، داخل "حرم السيدة فاطمة المعصومة"، وهو مزار ديني يقصده سنوياً ملايين المسلمين الشيعة.
بين الأخوين!
المرجع صادق الروحاني، مرت مراسم جنازته بهدوء، على عكس أخيه الراحل السيد محمد الحسيني الروحاني، أحد أبرز تلاميذ السيد أبو القاسم الخوئي؛ والذي تسنم منصب المرجعية بُعيد رحيل أستاذه. إلا أن الروحاني عندما وافته المنية العام 1997، تم منع دفن جثمانه في "حرم السيدة المعصومة"، ودفن في منزله، بسبب موقف النظام منه، كون الروحاني لم يكن على وفاق مع مؤسس الثورة السيد الخميني، منذ كان الخميني يلقي بحوثه عن "الحكومة الإسلامية" في مدينة النجف العراقية، كما أن أنصار "خط الإمام"، أشاعوا عن الروحاني أنه كان عميلاً لجهاز "السافاك" إبانَ العهد الملكي، وهي التهمة التي ينفيها عنه أخوه محمد صادق، قائلاً "ما نسب إلی أخي الأکبر السید محمد (قده) کذب محض، لا نصيب له من الواقع".
هنالك تذمر واسع لدى الناس من الصورة السيئة التي قدمتها الحكومة وأدائها غير المرضي شعبيا، والذي انعكس تالياً ليشمل مختلف رجال الدين، حتى المناوئين منهم للنظام أو البعيدين عنه
مدافنُ المراجع!
ليس محمد الحسيني الروحاني الوحيد من مراجع الدين للمسلمين الشيعة الذي دفن في منزله. فالسيد محمد الشيرازي، الذي توفي العام 2001، شهدت جنازته جدلاً كبيراً، وصدامات بين مؤيديه وأفراد من "الحرس الثوري"، حيث ووري الشيرازي تالياً في مكان آخر، خلافاً لوصيته. وبحسب مصدر تحدثت معه "العربية.نت"، قال إن "المرجع الشيرازي أوصى بأن يدفن في منزله، وأن ينقل تالياً جثمانه إلى مدينة كربلاء العراقية".
يشارُ إلى أن الشيرازي، الذي يعتبر أحد الآباء المؤسسين لـ"الإسلام الحركي الشيعي"، كان في بدايات الثورة الإيرانية من المؤيدين لها، قبل أن يتحول تالياً لأحد أبرز نقادها.
الشيخ حسين علي منتظري، الذي كان خليفة الخميني، قبل أن يتم عزله 1989، وفرض الإقامة الجبرية عليه؛ حينما توفي لاحقاً، دُفن في "حرمِ السيدة فاطمة المعصومة" بمدينة قم، رغم تحوله لأحد المرجعيات الأكثر نقدانية لطريقة الحكم في إيران. إلا أن العُرفَ قد جرى على أن يُدفن المراجع الدينيون باحترام، وفي داخل محيط "مقامِ المعصومة"، وكان النظام حينها لا يريد الصدام مع "التيار الإصلاحي" المؤيد لمنتظري.
الإصلاحيون، وبعد موت منتظري، اختاروا شخصية لها تأريخ ثوري من أنصار الخميني، ليكون بمثابة الفقيه للتيار، وهو الراحل الشيخ يوسف صانعي، وهو فقيه قريب من نهج رئيس الجمهورية السابق محمد خاتمي، وله مواقف ناقدة للتيار "المحافظ" ولمرشد الثورة علي خامنئي.
الانحناء للعاصفة!
بالعودة إلى السيد محمد صادق الروحاني، فإن المراقبين يرجعون التعامل الإيجابي من الجهات الرسمية في إيران مع مراسم جنازته، رغم مواقفه الناقدة الصريحة لـ"الجمهورية الإسلامية"، إلى عدم رغبة النظام في الصدام مع شريحة واسعة من الأساتذة وطلبة العلوم الدينية في "حوزة قم"، حيث كان الروحاني أحد أبرز أساتذتها، بشهادة شخصيات كالرئيس السابق للسلطة القضائية في إيران، السيد محمود الشاهرودي، والذي يرى أن "الأخوين الصادقين هما الأعلم بعد رحيل السيد الخوئي"، بحسب ما روى مصدرٌ مطلعٌ لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت".
التظاهرات الشعبية الواسعة التي شهدتها إيران، والسخط المتزايد اجتماعياً واقتصادياً لدى المواطنين، دفع بعدد من علماء الحوزة إلى مطالبة الحكومة بأهمية الاستماع لـ"صوت الشعب".
فعقبَ مقتل الشابة مهسا أميني، سبتمبر الماضي، ندد المرجع أسد الله بيات زنجاني بكل "السلوكيات والأحداث" التي كانت وراء "هذا الحادث المؤسف"، واصفاً إياها بأنها "غير مشروعة" و"غير قانونية"، ومضيفاً "القرآن يمنع بوضوح المؤمنين من استخدام القوة لفرض القيم التي يعتبرونها دينية وأخلاقية".
حتى مرجعيات مؤيدة للثورة، مثل الشيخ حسين نوري همداني، كانت لهم مواقف لافتة، حيث قال إن "القادة عليهم أن يصغوا لمطالب الشعب وأن يحلوا مشاكله وأن يبدوا اكتراثا بحقوقه".
كما أن مرجعاً آخر مناصرٌ للنظام، كالشيخ عبد الله جوادي آملي، صرح في يونيو الماضي، بأن "العمود الفقري للشعب هو ثروة البلاد، وإذا لم یستطع الحفاظ على عموده الفقري فهو فقير؛ كُسر عموده الفقري". مبيناً أن "الشعب الذي يعاني من كسر في عموده الفقري لا يملك القوة للنهوض".
رفض التبعية!
السرد التاريخي السابق، والمواقف المختلفة لمرجعيات دينية عدة بـ"حوزة قم" تظهر أن هذه الشخصيات في غالبيتها، ترفض أن تستتبع "الحوزة" بالنظام الحاكم، حتى ولو كان إسلامياً ويرأسه رجل دين، فهم يرون ضرورة استقلال الحوزة وحفاظها على مسافة تفصلها عن السلطات الرسمية، وهو موقف تجده أيضاً لدى شخصيات مؤيدة لـ"الجمهورية الإسلامية".
مرجعيات كالراحل الشيخ جواد التبريزي، وأيضاً الشيخ وحيد الخراساني الذي يعد اليوم أحد أبرز أساتذة الحوزة العلمية، ورغم عدم وجود مواقف عدائية علنية منهما ضد النظام الحاكم، إلا أنهما لديهما وجهات نظر مستقلة، وهما فقهياً لا يقرانِ بمبدأ "ولاية الفقيه المطلقة"، بل ينتميانِ لمدرسة لا تؤيد انخراط علماء الدين في العمل السياسي والحزبي.
التبريزي والخراساني، ولكونهما مواطنين إيرانيين، فقد تبنيا منهجاً يحافظ على السلم الأهلي، والنظام العام، ويمنع الفوضى أو العنف، وركزا على أهمية حفظ دماء الناس وأموالهم وأعراضهم، وأيضاً استقلال الحوزة العلمية وعدم تحولها لأداة بيد أنصار "خط الإمام".
مدرسة النجف!
هذه الآراء، إذا عاد المتابع إلى ستينيات القرن الميلادي المنصرم، سيجد لها جذوراً في مواقف المرجعيات الدينية وكبار أساتذة الحوزة العلمية في "النجف". ففي الوقت الذي كان يلقي فيه السيد روح الله الموسوي الخميني دروسه الفقيه وخطبه السياسية في النجف، وتأتيه وفود المؤيدين من إيران، كانت مرجعيات وازنةٌ لها حضور علمي وشعبي كبير، كالسيد محسن الحكيم، والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محمود الشاهرودي، متحفظة على النهج السياسي للخميني، بل إن بعضهم كان يحذر تلامذته من أفكار صاحب "الحكومة الإسلامية"، وينصحهم بالابتعاد عنها، دون أن ينكروا على الخميني فقاهته أو مرجعيته الدينية؛ إلا أن المنهج الذي كانت حوزة النجف تتبعهُ حينها، والممتد لعقود خلت، يستنكفُ العمل السياسي أو انخراط علماء الدين في الأحزاب أو تسنمهم المناصب الرسمية، ويرون في ذلك "شراً كبيراً"!
فرصة للتحرر!
الباحث المختص في الشأن الإيراني، حسن فحص، وفي ورقة نشرها موقع "إندبندينت عربية"، 15 ديسمبر الجاري، بعنوان "محطات على طريق إيران الطويل"، أشار فيها إلى أن "ما يحدث وما يتعرض له موقع الولي الفقيه فرصة لاستعادة هامش الاستقلال الذي كانت تتمتع وتتميز به الحوزة العلمية، بالتالي الخروج من الإطار الذي سبق ورسمه المرشد لهذه الحوزات". وهذا الأمر يتضح من خلال تحميل عدد من أساتذة الحوزة العلمية، أجهزة النظام، "مسؤولية حال عدم الاحترام وإهانة العمامة التي واجهت عدة علماء دين في الشارع العام"، وفق ما عبر عنه لـ"العربية.نت" و"الحدث.نت" مصدرٌ مطلعٌ، مضيفاً "هنالك تذمر واسع لدى الناس من الصورة السيئة التي قدمتها الحكومة وأدائها غير المرضي شعبيا، والذي انعكس تالياً ليشمل مختلف رجال الدين، حتى المناوئين منهم للنظام أو البعيدين عنه".
وعليه، فإن العلاقة بين الحوزة العلمية في قم، والنظام الحاكم في إيران، لا تتسم بالتبعية والطاعة المطلقة، بل هنالك مد وجزر طوال أكثر من أربعين عاماً، سعى خلالها أنصار "خط الإمام" لمحاولات تسييس وتثوير الحوزة، فيما بقيت المرجعيات التقليدية سداً منيعاً أمامهم، دفع ثمن ذلك شخصيات كثيرة، بين من نُزعَ زيه الديني كالراحل السيد كاظم شريعة مداري، أو ضيق عليه نطاق حركته كالسيد حسن القمي؛ فيما حظي المؤيدون لأفكار السيد الخميني بهامش أرحب في العمل والتدريس كالراحل الشيخ الفاضل لنكراني والشيخ ناصر مكارم شيرازي.