لم تكن مشاهد الرئيس الغيني، أسيرا بين عسكريّين من قوة خاصة، الوضع الذي تمناه ألفا كوندي بعد نضال تاريخي طويل ضد الدكتاتورية.
لكن هذه النهاية -كما يقول متابعون- هي قدر الكثير من رؤساء دول أفريقية؛ فما إن تتهيأ الظروف على الأرض ويبلغ الاحتقان الشعبي أوجه، حتى يهبّ ضباط الجيش لتغيير السلطة بالقوة.
ساعات من إطلاق النار الكثيف صباح أمس الإثنين وسط العاصمة كوناكري، تبين لاحقا أنها رصاص انقلاب عسكري، ليظهر منتصف النهار على شاشة التلفزيون عسكريون متشحون بالعلم الغيني، من مجموعة “GPS” معلنين وضع حد لحكم ألفا كوندي، بعد أكثر من عقد في السلطة.
كان ألفا كوندي في وقت من الأوقات أمل الغينيّين في التخلص من نير الاستبداد، واتخذ مسارا طويلا نحو ذلك، حتى وصل السلطة في انتخابات تاريخية، ليكون أول رئيس منتخب لهذا البلد بعد أكثر من نصف قرن على استقلاله.
من هو ألفا كوندي؟
ولد ألفا كوندي في مدينة بوكي بغينيا، شهر مارس من عام 1938، لكنه انتقل إلى العاصمة ليدرس الابتدائية هناك في كوناكري؛ ثم التحق مبكرا بالجامعة في ديكسين بالعاصمة، لكنه آثر المغادرة في سن مبكرة نحو فرنسا، ليلتحق بمدرسة بيير دي فيرما الثانوية في تولوز.
مستغلا علاقات والده برجال النخبة الفرنسية في الوسط التعليمي، لم يعزه الحصول على شهادة الباكالوريا من "ليسي تارجوت" أرقى ثانويات باريس.
كانت جامعة السوربون وقتها، وجهة طلاب المستعمرات الفرنسية، فانضم إليها ألفا كوندي، وحصل على دبلوم عالٍ في علم الاجتماع، ثم نال دكتوراه دولة في القانون العام في كلية الحقوق بجامعة "باريس1" العريقة.
ألفا كوندي.. من أروقة الجامعات لدهاليز السياسة
فضل كوندي أروقة الجامعات في فرنسا، على العودة لاستبداد دكتاتورية غينينا حينها، فبدأ التدريس محاضرا بكليات القانون والاقتصاد بباريس.
لكن التطورات السياسية في بلاده خلال السبعينات من القرن الماضي، أغرت كوندي بدخول المعترك السياسي.
عام 1977، أسس ألفا كوندي الحركة الوطنية الديمقراطية، رفقة البروفيسور ألفا إبراهيما سو، وهي حركة سرية، ذات توجه يساري، تناضل من الخارج، للتغيير السياسي في غينيا.
لاحقا وبعد عقود من النضال السري، ومواجهة السلطات الحاكمة في غينيا، وتحديدا في بداية التسعينات خرجت الحركة إلى النور، وتحولت إلى حزب طرأت على اسمه تغييرات مختلفة، بأهداف ثابتة.
العودة إلى غينيا
توج كوندي نضاله السياسي الطويل في الخارج، بالعودة إلى الوطن طمعا في تغيير سياسي عبر صناديق الاقتراع، متكئا على تجربة طويلة في مقارعة الأنظمة في غينيا.
واجه كوندي عام 1993، الرئيس حينها لانسانا كونتي، الموجود في السلطة منذ 1983، وفاز الجنرال، في انتخابات تقول المعارضة والمراقبون الدوليون، إنها اتسمت بالتزوير، وشاب مسارها الكثير من الانتهاكات.
بعد 5 أعوام أعاد كوندي الذي أصبح الزعيم الأبرز للمعارضة الغينية الكَرّة، ونافس كونتي في الانتخابات الرئاسية، لكن الجنرال لم يمهله حتى نهاية الاقتراع، وزجّ به في السجن، وفاز "الدكتاتور" بأغلبية ساحقة للبقاء في السلطة.
المحاكمة والسجن
لبث ألفا كوندي 20 شهرا في السجن، وبعد حملة حقوقية محلية ودولية، وافقت السلطة الحاكمة على تقديمه للمحاكمة، وبعد جلسات طويلة انتهت في سبتمبر/ أيلول عام 2000، حُكم على الرجل بالسجن 5 سنوات.
بقي الرئيس ألفا كوندي في السجن حتى استفاد من عفو رئاسي، في مايو عام 2001، بعد أكثر من سنتين في السجن.
عاد المناضل الغيني إلى المنفى في فرنسا، في فترة نقاهة من السجن، لكنه ما لبث أن عاد لمواصلة مواجهة الدكتاتورية عام 2005، وبعد 3 سنوات توفي الجنرال كونتي، وتسلم الجيش السلطة.
مواجهة الجيش وقمع الغينيّين
ودعا ألفا كوندي المجلس العسكري الحاكم لترك السلطة للمدنيين وإجراء انتخابات شفافة، بعد 3 سنوات من حكمهم.
لكن الاستجابة لهذا المطلب الذي تؤيد فيه كوندي جميع القوى الحية والمدنية في البلاد، لاقى معارضة من السلطة الحاكمة، التي قمعت المعارضين، ودفع فيها الشعب الغيني ضريبة كبيرة؛ حيث وقعت مذابح عام 2009، خلال تجمع في ملعب كوناكري، بعد إطلاق المسلحين النار على الجماهير.
الانتخابات والوصول للسلطة
أخيرا استجاب العسكر لتنظيم انتخابات رئاسية أعلن فيها كوندي ترشحه للرئاسة، وبعد مسار اقتراع غامض، وجولة ثانية، أعلن في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2010 فوز كوندي.
نضال طويل، أتى أكله إذن، وأصبح كوندي أول رئيس منتخب لغينيا، بعد عقود من نير الدكتاتورية.
نُصب كوندي رئيسا لغينيا، في محفل كبير حضره 13 رئيس دولة أفريقية، ووعد الرئيس المنتخب بأن يكون "مانديلا غينيا"؛ يوحّد البلاد، ويسعى لتنميتها اقتصاديا.
نمو وازدهار
وبالفعل؛ وبفضل اختيار كوندي فريق اقتصادي للحكومة الجديدة، شهدت غينيا بين عام 2010 و2017، نموًا سنويًا بلغ في المتوسط نسبة 4%.
هذا النجاح الاقتصادي أكسب كوندي ولاية رئاسية ثانية؛ وأعيد انتخابه مرة أخرى عام 2015 بنسبة 57.9% من الأصوات في الجولة الأولى.
غير أن كوندي اصطدم بجدار الدستور، الذي يمنع أكثر من مأموريتين، لذلك دعا عام 2019 إلى تنظيم استفتاء شعبي يمنحه الترشح لولاية ثالثة.
انتهاك الدستور وقمع المعارضة
وهي الدعوة التي رفضتها المعارضة الغينية بقوة، ووقفت لها في احتجاجات شعبية كبرى، ووجهت بقمع كبير من السلطة، ما أدى لقتل العشرات.
لم يمنع ذلك كوندي من السير قدما في طموحه للبقاء بكرسي السلطة، فأرجأ الانتخابات التشريعية عام 2020، وأجرى استفتاء رغم أنف المعارضة، سمح له بالترشح.
وفي أكتوبر من نفس العام، أعلن كوندي فوزه بولاية ثالثة، وأدى اليمين الدستورية منتصف ديسمبر من العام الماضي، لفترة رئاسية من 6 سنوات.
لكن صباح الخامس من سبتمبر 2021، حمل أخبارا سيئة لألفا كوندي، حيث لعلع الرصاص على بعد أمتار من قصره، وبعد ساعات قبضت عليه قوة عسكرية، من الجيش الغيني، أعلنت انتهاء حكمه، وحلّ مؤسسات الدولة، لتعود غينيا إلى مربع حكم العسكر بعد ما يزيد على 10 سنوات من مغادرته.