تعالوا معي سادتي الأفاضل لأنتقل بكم إلى بغداد الجميلة ولنحط بكم في إحدى مدنها الساحرة الغافية على نهر دجلة «الأعظمية» حيث تدور أحداث ما سأقصه عليكم من واقعة ذات دلالة ودلالة عظيمة حدثت في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

فكما هو معلوم لأهالي بغداد فإن مدينة الأعظمية والتي سميت بهذا الاسم تيمناً بالإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه والذي عاش وأثرى الحياة بعلومه الدينية وفقهه الحنفي ودفن هنالك وما زال ضريحه ومنبره وجامعه الذي يحمل اسمه شاخصاً وشاهقاً ويمثل رمزاً كبيراً لأهالي بغداد الأصلاء، وقد شُيدت أغلب بيوتاتها وأزقتها القديمة بجواره وحوله. وهي تحمل طابعَ وعبقَ الماضي.

وفي سبعينيات القرن الماضي كنت أحد ساكنيها وأنا طالب جامعي ضمتني والعائلة أحد بيوتاتها البسيطة الواقعة في حي «رأس الحواش»، حيث البساطة في البناء والقناعة في العيش، وتزامن أن قامت أمانة العاصمة في حينها بتطوير ساحل نهر دجلة الذي يمر بها ليكون متنزهاً متاحاً لأهالي الأعظمية وليطلق عليه «كورنيش الأعظمية»، وهو من أجمل المنتزهات في حينها.

وكان متنفساً لعموم أهالي بغداد ولساكني الأعظمية على وجه الخصوص، ووجدت حالي وحال أغلب الطلاب مشدودين إليه وأنه أفضل مكان لنحط فيه رحلنا أيام الامتحانات النهائية والتي تصادف مع بداية الصيف اللاهب.

وكنا مجموعة طلاب ومن كليات وتخصصات مختلفة تجمعنا الصداقة الحميمية والجيرة لنتوجه عصر كل يوم مع انكسار أشعة الشمس وقيض الحر إلى ذلك الكورنيش نحمل معنا كتبنا ومصادرنا وحاجاتنا الضرورية لنجلس تحت ضلال أشجاره لنغوص في كتبنا وتداعب وجوهنا نسمات دجلة الخير رغم بعض المنغصات التي تعترض جلوسنا كون أن الكورنيش متاح للجميع ولا يخلو من صخب الأطفال والتجمعات الشبابية، إلى أن أبلغنا أحد الزملاء أنه قد اكتشف لنا مكاناً في نهاية الكورنيش من جهة جسر الصرافية معزولاً ومعداً بطريقة تجلب الانتباه ومحاطاً بالأشجار وسيباط الأعناب يعزله عن الممشى سياج خشبي بسيط ولا يوجد ما يشير إلى أنه مكان خاص، ومن السهل تجاوزه ثم الجلوس داخل هذه الواحة التي لا تتعدى مساحتها الـ50 متراً مربعاً على حد وصف زميلنا، وفعلاً توجهنا بناءً على وصفه في اليوم التالي إلى ذلك المكان وتعدينا السياج بسهولة وجلسنا كالعادة ننهم العلم من كتبنا وبهدوء غير معهود ونسمات رقراقة تخترق الصمت، وبقينا أياماً ونحن في غاية السعادة نتوجه إلى تلك المكان التي توفر لنا أجواء الدراسة المثالية إلى أن عكر صفونا صوت فيه زجر متسلل من بين الأشجار وباللهجة البغدادية «إشجابكم هنا يله لملموا والاتكم «حاجياتكم» عالسريع لا أذبكم بالسجن»، فتلفتنا فإذا به رجل بزي الشرطة يحمل عصا فارتبكنا أيما ارتباك ولملمنا كتبنا وحاجياتنا معتذرين منه دون اعتراض منا حيث أدركنا أن هذا المكان خاص وربما يعود لمسؤول أو رجل ثري، فإذا من خلفه رجل وقور يمشي الهوينا، اقترب منا شيئاً فشيئاً مع امرأة تصاحبه وهي في قمة الحشمة والسكينة تبين لنا لاحقاً أنها حرمه المصون ولم يفصلنا عنه سوى أمتار فألقى على الجميع السلام بوجه بشوش فتسمر الجميع وقوفاً ودققنا النظر فيه ونحن في حال ارتباك لا يعلم حالنا إلا الله بعد أن أدرك الجميع أن المتكلم هو رئيس الجمهورية الراحل «أحمد حسن البكر»! فهدأ من روعنا وطمأننا مبادراً بالسؤال عن أحوالنا ودراستنا واستفسر من كل واحد عن تخصصه ومرحلته الدراسية، وفينا من يدرس الطب والآخر الهندسة وثالث العلوم وهكذا حتى انتهى من الجميع ثم طرح علينا سؤالاً بريئاً، كم يوماً تحتاجون لاستخدامكم هذا المكان؟

فقلنا له سيدي بحدود أسبوعين، والتفت إلى ذلك الشرطي الذي تبين أنه سائقه وأمره بأن يقوم على خدمتنا بتقديم ما نحتاجه وجلب المأكولات الخفيفة والعصائر عصر كل يوم من حسابه الخاص حتى نكمل اختباراتنا ثم أردف قائلاً وبصوت أبوي: «أريد منكم أولادي أن تحققوا لي طلباً عندما تتخرجون وتتدرجون في الحياة الوظيفية فمنكم من سيصبح ضابطاً والآخر قاضياً أو طبيباً أو مهندساً أو مدرساً فقلنا له بصوت واحد أنت تأمرنا أمراً سيدي الرئيس»، فقال: «أريد منكم أن تضعوا العراق في حدقات عيونكم وتخدموا الشعب العراقي، فالعراق عزيز وغالٍ وشعبه كريم، ويستاهلون التضحية فنزلت كلماته كالسكينة في قلوبنا»، ثم غادرنا بهدوء رحمه الله وهذا هو أول وآخر لقاء جمعنا معه، لله درهم من رجال عظماء.