عطا الله يسرد مسيرته لـ"الوطن": طريق طموحي كان معصوفاً برياح غير مستقرّة
محمد الرشيدات
ناكفت نفسي ولم أكُنْ يوماً أسيراً للتقاعس.. «المجالس مدارس».. الفوائد التي قد يُجنيها المرء من حضورها جمة أكثر من 10 آلاف كتاب في مكتبتي.. وأنا حريص على أمّهاتها من أي تلف لزوجتي الفضل بعد الله لما أنا عليه الآن
ما إن تمارى بينه وبين نفسه وجادلها جدالاً كانت حجّته فيه بالغة وداحضة وأقوى منها بأن لديه القدرة أن يُصبح اسماً وعَلماً وقامةً علمية وعملية في سماء التعليم والدراسات الإسلامية،، تحقّق الوصف لما بات عليه الآن من رفعة أكاديمية يشارُ إليها بالبنان، بعد مسير حافل من الإنجازات وتاريخ طويل من محطاته الدراسية التي تناقل بين مستوياتها، وأضحى اسمه ملازماً لصفة الدكتور في مجاله. من مهد المِحن تنشأ المنح، وقتما يميل الإنسان إلى حقل تعليمي يستميل قلبه ليُبدع فيه، لتبدأ الومضات تستقر في سمائه أينما حلّ وارتحل، على الرغم من أنف الصعاب والمنعطفات التي قد تواجهه بين الحين والآخر لتثبطه، ولكن هيهات هيهات تُحاول أمام مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معًا كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ، وعليه، وعلى الرغم من أن إمضاء مبتغاه كان معصوفاً برياح غير مستقرّة، ولكن لا مكان للمعضلات ما دامت العزيمة متسلّحة بالإيمان المُطلق. د. أحمد عطا الله الذي حاورته «الوطن» على مهل، شخصية ارتشف من طيبتها الكثيرون، ونهل من علمها العديدون، وتسابق على رفقتها العلماء والأدبيون ممن يغوصون في بحر المعرفة والعلوم الإسلامية التي لها قدرة ساحرة على تهذيب الأنفس والأخذ بها نحو أعالي المراكز والأمكنة التي تليق بمخزون لبّها الفكري. وفي هذا الإطار أبرز محاور اللقاء الذي حمل معه العديد من التفاصيل والذكريات العالقة في وجدان د. أحمد عطا الله: من هو د. أحمد عطا الله؟ - أحمد عبدالله عطا الله من مواليد 1944 ولدي سبعة من الأولاد، تشرّفت بالقدوم إلى البحرين في العام 1973، وعملت حينها مدرساً في المدارس الثانوية، تنقّلت بين مدرسة النعيم الثانوية، ومدرسة الهداية الخليفية، ومدرسة أحمد العمران الثانوية، ومن ثَمّ المعهد الديني، وخلال هذه المرحلة، تشكّلت لجنة استشارية لمادة ومقرر التربية الإسلامية في المدارس، وكنت أحد أعضاء هذه اللجنة لإقرار تلك المادة، إلى جانب اعتمادي كمشرفٍ على مراكز التحفيظ القرآنية الموزّعة في مختلف محافظات البحرين بتكليف من وزارة العدل والشؤون الإسلامية. بالتزامن مع تلك الفترة، طُلِب منّي أن أشارك في برنامج عبر إذاعة البحرين اسمه «قضايا إسلامية»، الذي كان يقدّمه المذيع القدير أحمد حسين، مدّته نصف ساعة، متناولاً قضية هامّة من القضايا الدينية التي تشغل بال الرأي العام، ولعظيم التفاعلات التي أبداها الجمهور مع البرنامج الذي تبنّى إظهار قوام عقيدة الإسلام السمحاء والمعتدلة، قُدّرَ له أن يستمر طوال 25 عاماً متواصلة دونما انقطاع. ماذا بعد؟ - بعدها قدّمت أيضاً برنامجاً كان يُعرض على تلفزيون البحرين تحت مسمى «أبناء القرآن»، حيث كانت تقوم فكرته على أخذ عيّنة من الطلاب المتسابقين تنتقيهم وزارة العدل والشؤون الإسلامية بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، ليبدأ البرنامج بسلسلة حلقات مكوّنة من أربع، وبعد حصول التغذية الراجعة من هذا العرض، فوجئت بطلب من مدير التلفزيون بأن أقوم بإعداد حلقات أخرى، وكان هذا الأمر بناءً على طلب من سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البلاد رحمه الله، آنذاك الذي كان أول المتابعين للبرنامج، مبدياً إعجابه العميق بمكوّنه والرسالة التي يقدّمها. وفي أثناء ذلك، تشرّفت وبإيعاز من وزارة العدل والشؤون الإسلامية القيام بمهمّة إدارة مركز الرفاع الشرقي الديني، وكان يضم أئمة الزلاق وعسكر وجو والرفاع الشرقي والرفاع الغربي ومدينة عيسى، لأنبري في تقديم برنامج تدريبي يستهدف أئمة الجوامع لرفع مستواهم في مجال القرآن وفي مجال التجويد و الفقه. أبرز التطورات الأكاديمية في حياة د. أحمد، كيف بدأت، وإلى أين انتهت؟ - بعد إكمال دراستي الثانوية، هممت بالدخول إلى جامعة الإسكندرية لأنال شهادة البكالوريوس بتخصص اللغة العربية عام 1969، وكنت وقتها أمتحن في جامعة بيروت العربية وأواصل الليل بالنهار حتى أصل إلى مُرادي الذي أعلنت لذاتي أنني جدير بالتميّز والإنجاز، ثم قدّمت للدراسات العليا ولم أوفّق حينها، إلى أن التحقت سنة 1979 بمعهد الدراسات الإسلامية في القاهرة لأتلقى التعليم بين أروقة صروحه لمدّة 3 سنوات، كانت دراسةً مكثّفة في العلوم الإسلامية، وفي كل سنة على الطالب أن يجتهد بدراسة 11 مادّة والنجاح بها، وبعدما تخرّجت من المعهد، قمت بدراسة تمهيدي الماجستير، ثم توجّهت للدراسة في باكستان وحصلت على الماجستير منها عام 1995، الأمر الذي أوجد لدي الشغف وزادني إصراراً من أجل الحصول على شهادة الدكتوراه، وبالفعل توجّهت إلى لندن والتحقت بالجامعة الأمريكية هناك لدراسة الدكتوراه عن طريق التعلم عن بُعد سنة 2008. أهم المواقف التي تتذكّرها في مسير حياتك والتي كان لها شأن في صقل شخصيتك؟ - كُلّفت بالتدريس في كلية الخليج للتكنولوجيا، أرادوا مدرّساً للّغة العربية والدراسات الإسلامية من وزارة التربية والتعليم وتم ترشيحي عام 1982، وفي سنة 1986 تأسست جامعة البحرين، وكان حينها قد تم إنشاء معهد المعلمين الذي توقف، لتحل مكانه كلية العلوم والآداب وكلية الخليج للتكنولوجيا، واستمريت في التدريس فيها لغاية 1995. بعدها، اتّجهت لتدريس تخصص الحقوق في جامعة العلوم التطبيقية التي كانت قد أُنشئت حديثاً، إلى جانب نخبة من القامات الأكاديمية المشهود لها ومن أبرزهم د. خالد الدويري عميد الكلية آنذاك، وبعد مرور وقت وجيز وتحديداً في 2008، تقاعدت من وزارة التربية والتعليم التي كنت قد عملت فيها مدرّساً، ومدرّساً أول، ومساعد مدير، لتأتي اللحظة الأخرى التي لها في مخيّلتي ذكريات لا تُنسى، عندما أَسْدَلْتُ الستار على مسيرتي كمدير للمعهد الديني الوحيد الذي يُعنى بالدراسات العربية والدينية والاجتماعية، وكان يضم ويستهدف المراحل الدراسية الثلاث، الابتدائية والإعدادية والثانوية. ما قصّتك مع الخَطابة؟ - أثناء تدريسي في وزارة التربية والتعليم وفي جامعة العلوم التطبيقية، كنت قد حضرت إلى البيت في المساء وأثناء دخولي أخبرتني زوجتي أن اتصالات هاتفية عديدة قد وردت إلى المنزل من قبل مدير الشؤون الإسلامية آنذاك الشيخ محمد عاشير رحمه الله، وعند معاودتي الاتصال به، قال لي إن الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله وزير العدل والشؤون الإسلامية وقتها، وكان قبلها نائب رئيس الوزراء، قد كلّفني بوضع أسماء لاختيار من هو الأجدر لتولّي إمامة الخطابة في جامع الشيخة بزّة رحمها الله في محافظة المحرّق الذي تم بناؤه في العام 1984. وعندما رأى القائمة قال بلّغوا الشيخ أحمد عطا الله إنه هو الإمام والخطيب، وبالفعل استجبت لأمر معاليه، لِأَهُمّ القيام بزيارة إلى المسجد مع وقت الغروب منبهراً بتصميمه وبحجم الإضاءة والاهتمام بأدق التفاصيل الجمالية فيه قبل افتتاحه، لأستمر في إمامته لمدة تزيد على 27 سنة. في غضون ذلك، وقبل اعتذاري بالاستمرار في إمامة خطابة جامع الشيخة بزّة رحمها الله، أصبحت مشغولاً في بناء بيتي هذا الواقع في منطقة البسيتين، وبسبب ذلك، ذهبت إلى الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة لأقدّم اعتذاري له عن مواصلة الإمامة في المسجد، نظراً لمكان سكناي الجديد الذي يبعد عن الجامع، ليردّ علي قائلاً ومن باب تقديره لي الذي أجلّه وتمسّكه بي: وجود السيارات قرّب المسافات، ولم يَعُد أي مكان يصعب الوصول إليه. من عرّاب د. أحمد، وما مضمون الحكمة التي يعتمدها في نهج حياته؟ - أنا متمسّك بما قال الله في كتابه الكريم، وبتعاليم السنّة النبوية الشريفة، ومن بعدهما، العلماء الأجلّاء في العالم الإسلامي، وأما حكمتي في هذه الحياة يمكن أن أسترشد ببيت قصيد للشاعر أحمد شوقي يقول فيه: صلاح أمرك للأخلاق مرجعه، فقوّم النفس بالأخلاق تستقم. الزخم الفكري والثراء المعلوماتي في عقل د. أحمد، كيف أفلح في توريثه لأبنائه؟ - لدي الابن الأكبر توجّه لدراسة الهندسة الإلكترونية، وأخته الأكبر منه أيضاً تحمل شهادة في الطب، وابني الأصغر يحمل شهادة في هندسة الحاسوب، وأما باقي بناتي فقد درسن في جامعة البحرين بتخصصات مختلفة. كيف لزوجتك الفضل بعد الله في تهيئة الأجواء للخروج بعائلة نموذجية قوامها الدين والعلم والأخلاق؟ - لقد تزوجت أم أسامة وهي ما زالت طالبة في المدرسة حديثة الدخول بالمرحلة الثانوية، لأعاونها على نيل الشهادة الثانوية الأردنية، ومن ثَمَّ انتَسَبَتْ للجامعة وحصَلَت على شهادة البكالوريوس في تخصص اللغة العربية. أنا وزوجتي تكاتفنا سوية من أجل تربية أولادنا التربية الإسلامية الصحيحة، وهي لم تبخل علي باهتمامها وتوفير الإمكانات كافّة التي تحتاجها العائلة، واستطاعت أن تكون مِعول بناء للأسرة كاملة، بالفعل، ممتنٌ لها لما وصل بي الحال الآن على الصعيدين العلمي والعملي، وأيضاً لما قامت به من جهود قيّمة أسهمت فيما أصبح عليه أبنائي في الوقت الحاضر. أبرز محطّة في حياتك؟ - حصولي على شهادة الدكتوراه، والرد على أسئلة المستمعين لما يزيد على عقدين من الزمان ونيّف، إلى جانب نيل ثقة وزارة التربية والتعليم في ترشيحي لعديد المهام التربوية سواء في المدارس أو الجامعات. شاهدنا احتواء بيتك على مكتبة تضم سلسلة ثرية من الكتب، كم يصل عدد المجلّدات فيها؟ - أعتقد أنها تحوي على أكثر من 10000 آلاف كتاب، من الكتب الدينية والمؤلفات القيّمة، إلى جانب إصدارات تُعنى بالسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والمجلّدات الثقافية، وأنا حريص على أمهات الكتب والعناية بها، والإبقاء على قيمتها الفكرية من أي تلف. هل هناك من رياح عصفت بك في السابق، وجعلت منك إنساناً يذود عن طموحاته ويُصبح قامة علمية يُشار لها بالبنان؟ - في طفولتي العادية والبسيطة، وبعد الثانوية العامّة، جاءتني بعثة تعاقد من المملكة العربية السعودية، ولم أذهب لتلك البعثة بسبب ظروف أهلي المادية الصعبة آنذاك، فآثرت على عدم الذهاب حتى لا أُثقِل عليهم، لأفضّل العمل حينها على البعثة. هناك مثل شعبي يقول: «المجالس مدارس»، هل لك قصّة مع هذا القول، وكيف تقرأه؟ - منذ مجيئي إلى البحرين وأنا أواظب وحتى اللحظة على زيارة مختلف المجالس التي يقيمها الشيوخ والأصدقاء، ومن تلك المجالس التي قمت بزيارتها في حياتي ولها ذكرى طيّبة عندي، مجلس الشيخ خليفة بن حمد آل خليفة، وكنت في فترة طويلة أداوم على حضور هذا المجلس برفقة المدعوين إليه، وأيضاً مجلس الوجيه خليفة الظهراني الذي أصبح فيما بعد رئيساً لمجلس النواب، ومجلس فضيلة الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة رحمه الله، الذي كنت أزوره أحياناً ليلة الجمعة وأحياناً أخرى ليلة الأحد. وأما فيما يتعلق بالقول الشعبي «المجالس مدارس»، كنت ذات مرّة في مجلس الشيخ خليفة بن حمد آل خليفة، وكان قد حضر المجلس حينها وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء محمد المطوّع، ودعاني في وقتها إلى مجلسه الذي كان يُقيمه يوم الثلاثاء باستمرار، وقد توافد إلى المجلس جمع غفير من الأصدقاء والمحبين والمدعوين يقفون خارج المنزل، وأثناء وصولنا أنا والشيخ خليفة بن حمد إلى المجلس، أخبرني أن سمو رئيس الوزراء سيحضر هذه الليلة، وبالفعل جاء صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رحمه الله، فبدأ المدعوون بالسلام عليه تباعاً، بحضور عليّة القوم من الوزراء ورجال السياسة والاقتصاد والإعلام. لأفاجأ بأنْ أذن لي الوزير محمد المطوّع بالتكلّم أمام سمو الأمير خليفة رحمه الله، فقلت لحظتها كلمة وضمّنتها باقتباس من قول الشاعر الإماراتي سلطان العويس: فذا الكون، جامعة الجامعات، وذا الدهر، أستاذها المعتبر، وهي كانت استعانة في محلّها لأوجز عِظَم الفوائد التي قد يُجنيها المرء من حضوره المجالس المجتمعية، وبعد انتهائي من كلمتي نظرت وإذ بأعين جميع الحضور تتوجّه نحوي باهتمام وتقدير بالغيْن، وأوّلهم صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة رحمه الله. حدثْتني أن لك تجربة مع الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيّب الله ثراه، ما هي؟ - لقد التقيت بالأمير الراحل عدّة مرّات، ومن أبرزها، عندما ذهبت مع المدير العام السابق للتقاعد محمد العلوي، لزيارة الشيخ محمد بن عيسى في المستشفى إثر وعكة صحية ألمّت به، وكان المكان يعُجُّ بالزوار الكُثُرْ، وبعضهم يسجّل اسمه في سجلّ الزيارات لكثافة الناس، وعندما اقتربت من الغرفة وجدت الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة واقفاً لتصيبني الرهبة ويحاصرني الارتباك ، فقمت بالسلام عليه، ليبادر بطرح سؤال مباشر دون مقدّمات، لماذا يا د. أحمد، حال العرب لا يَسرّ، فأجبته مستنداً على قول الله عز وجل في كتابه المُحكم ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا )، فالله أعطانا الوصفة الدينية لنفخر بأنفسنا، فبالإسلام نُعزُّ، ومن دونه لا قيمة لنا. لأستطرد بكلامي أمام الأمير الراحل، وآتي على ذكر قصّة الحكيم العربي، عندما حضرته المنية، طلب من أولاده وكان عددهم سبعة، أن يُحضر كل واحد منهم عصا خشبية، وأن يقوموا بكسرها على انفراد فكُسِرت، وعندما طلب منهم أن يَجمعوا تلك العصي ويربطوها مع بعضها استعصى على كل منهم تقسيمها إلى نصفين، فقال الحكيم لحظتها: كونوا جميعاً يا بنيّ إذا اعترى خطبٌ ولا تتفرّقوا آحادا تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسّراً وإذا افترقن تكسّرت أفرادا وكان حينها الأمير الراحل يردد آخر كلمة من كل بيت، وقال لي : لقد صدقت يا شيخ أحمد.