التواجد العربي في الصين، بوزنه السياسي الثقيل، في المنتدى المشترك العاشر بين الجانبين والمتزامن مع ذكرى تأسيسه العشرين، هو حدث ذو طابع ومغزى مختلف النكهة هذه المرة، بما يثيره من فضول وترقب لنتائجه القادمة على مسرح الأحداث العالمية، في ظل تزايد التقارب العربي مع هذه القوة الشرقية المصممة على كسر قاعدة «الهيمنة الأحادية»، التي تستمر في تقسيم العالم بين قطب «متمدن» يتبنى فكر العولمة بخيرها وشرها، وبين قطب «تقليدي» يرفض التمرد على جذوره، ويعمل على تجديد تربتها بحكمة وتروٍ.وكأول انطباع سجّلته الأعين المتابعة والمترصدة لهذا الاستقبال الصيني الودّي والحميمي للأصدقاء العرب، والمتوشح بقيم طريق الحرير من أجل «التناغم دون التماثل» الحضاري، وكما يقول المثل الصيني، هو مستوى الانسجام والارتياح الذي واكب الاجتماعات الجماعية والثنائية، على حد سواء، والنابع من احترام متبادل وتقارب في الرؤية السياسية تجاه مواضيع الساعة والقضايا التاريخية ذات الأولوية، ونلحظ كذلك، نجاح هذه المنصة الراعية للعلاقات العربية-الصينية في تثبيت عنوانها العريض بأنها شراكة استراتيجية شاملة، أي نعم، ولكنها مبنية على أساس صلب من «الثقة» المتبادلة والمتنامية.الجميل في أمر هذا التناغم في العلاقات بين الجانبين، الذي أثمر آليات مؤسسية مقننة للطموحات المشتركة لتجد طريقها بكل مهنية إلى ميادين التطبيق، هو التعامل الصيني الحكيم مع العالم العربي باعتباره كياناً واحداً، في إشارة ضمنية عميقة إلى أهمية التكامل بين دوله في هذا العصر الجديد الذي يهاب التكتلات القوية، ولكن دون فرض لأي ضغوطات أو وصايات تؤدي إلى التدخل في أي شؤون داخلية، وهذا ينم عن حرص صيني إضافي لإنجاح مسيرة الصداقة الثرية بمجالاتها والعميقة بجذورها.إلا أن هذه السياسة المراعية والمتفهمة لظروف كل بلد على حدة، قد استطاعت أن تنهي 200 مشروع كبير على ضفتي التعاون، وأن تقفز بقيمة التبادل التجاري بين المنطقتين إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل 20 عاماً، والبالغة اليوم حوالي 400 مليار دولار. ومن بين أبرز ما نفذته مبادرة الحزام والطريق عربياً، مبنى العاصمة الإدارية الجديدة بمصر، الملقّب بـ«الهرم الجديد»، واستاد لوسيل بقطر، الملعب الرئيس لكأس العالم، وعدد من المشاريع الاستراتيجية الكبرى في مجالات الطاقة والبنية التحتية في البحرين ودول المغرب العربي.واللافت للنظر، أن الصين تبدي استعداداً استثنائياً لبناء نموذج خاص بينها وبين المنطقة العربية لتجسيد ما يسمّى بالتقارب الحضاري، بتوازن حصيف بين كفة الانسجام الإنساني بتفاعلاته المعنوية، «الثقافية والشعبية»، وكفة التبادلات الاقتصادية بمنافعها المادية، وهو ما أشار إليه الرئيس «شي» لدى مخاطبة ضيوفه العرب، ونعتبره عاملاً أساسياً لتحصين مسارات التعاون متعددة الأبعاد، وجزءاً أصيلاً من منهجية الابتكار والتميّز الصيني من أجل رخاء وسعادة الإنسان، أينما كان.كما أن الصين باهتمامها الفائق بالتبادلات الثقافية بين المجتمعات الإنسانية، هي في الواقع تعمل على تفعيل «مبادرة الحضارة العالمية» التي سبق أن أطلقها الرئيس الصيني، لإعلاء قيمة وفائدة التنوع الفكري واستثماره استثماراً صحيحاً لمصلحة التقدم والتفوق الحضاري، الذي تبدع الصين في إنجازه، وذلك عبر التأسيس لقنوات ومنصات ثقافية تعتمد طريق الحوار والتعلم المتبادل والانفتاح الإنساني، بما يؤكد على حقيقة قائمة، بأن الحضارات تزدهر بتنوعها وتعايشها السلمي بعيداً عن المجابهات الأيديولوجية وسياسات الإقصاء المؤدية إلى القطيعة الإنسانية، التي لا تحمد عقباها.وتصل الحماسة الصينية ضمن هذا المسار المقرّب للمسافات مع المجتمعات العربية، لإقامة مشاريع ثقافية ومعرفية نوعية، كإنشاء مركز عربي-صيني لتفعيل مبادرة الحضارة العالمية وللتعاون الثقافي والسياحي، إلى جانب تأسيس منصات تتفاعل عبرها المؤسسات الفكرية والجامعية، وجميعها مشاريع طموحة نتطلع إليها كمجتمعات عربية، إن أردنا فعلاً أن تتكامل عناصر هذا التعاون لتكريس روح الصداقة بين الأمتين العربية والصينية، على درب «مليء بنور الشمس» الشرقية.ومن على هذا الدرب، تأتينا الرسائل الدافئة والمطمئنة من الأمة الصينية لنظيرتها العربية لتحقيق آمال العودة السريعة لأمن واستقرار المنطقة، لتعلو نبراتها في مخاطبة الضمير العالمي مع استمرار تغييب خيار السلام، حيث ينبه رأس الدولة الصينية إلى ضرورة تطبيق «العدالة الدولية» التي طال انتظارها، لنصرة الحق الفلسطيني، مذكراً بموقف الصين المؤيد والثابت لحل الدولتين.ولقد تماثلت المطالبات الصينية مع النداء والسعي المخلص لجلالة ملك البحرين المعظّم، ورئيس القمة العربية في دورتها الحالية، بعقد مؤتمر سلام دولي على وجه السرعة، تلتقي فيه كافة قوى الاعتدال والتعاون لتمارس مسؤوليتها الجماعية حيال قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، واحتواء الكارثة الإنسانية التي تجري ضد المدنيين والأبرياء على أراضي غزة، بوقف الحرب الوحشية التي سيسجلها التاريخ، في صحيفة من يشعل نارها، بأحرف الخزي والعار.* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة** بعض المعلومات مستقاة من مقالة وزير الخارجية الصيني التي نشرت مؤخراً في عدد من الصحف العربية.