جرياً على تقاليدها النابعة من عمق التاريخ الإسلامي، والتزامها الراسخ بصون مقدسات آخر الرسالات السماوية، لم تغفل المملكة العربية السعودية، وهي تسخّر كامل إمكاناتها ومواردها وخبراتها، عن أي شاردة ولا واردة، ليخرج موسم الحج الحالي «1445 هـ» بأبهى صورة.وعند الإبحار في تفاصيل تلك الصورة، تنبهر العين ببراعة القائمين «بحق» على شؤون هذا الركن العظيم، ويهنئهم اللسان على مستوى اليقظة وحجم الاستنفار، التي لا يعمل بها إلا الأشداء، ولكن الرحماء فيما بينهم، في سياق ملحمة استثنائية، احتضنت ضيوف الرحمن بالحب والترحاب، والحماية والإيثار، لتكون رحلتهم الإيمانية خير زاد لأرواحهم، وأعز ذكرى ستحتضنها قلوبهم.المختلف هذه المرة عند متابعة حركة هذه الجيوش المنظمة في خدمة حجاج بيت الله، الصيغة المتقنة للاستراتيجية الإعلامية، الرسمية تحديداً، والصادرة عن القنوات الوطنية، التي أبدعت في نقل العبرة فيما وراء الصورة، وإيصال المغزى من وراء الخبر.ولمن تابع برامج التلفزيون السعودي خلال الأيام الماضية، سيجد بأن ملاحظاتي، السابقة واللاحقة، هي ليست من قبيل المجاملة ولا المبالغة، إذ لم يكن هناك حاجة للبحث عن المعلومة بعيداً عن تغطياته وبرامجه، التي تميزت بحبكة رسائلها، المقصودة والمدروسة، وأهمها بيان عظم مكانة مكة المكرمة ضمن نسيج تكوين الدولة السعودية، التي لم تتوان، ومنذ توحيدها على يد المؤسس الأول الملك عبد العزيز، عن تحمّل هذه المسؤولية الجسيمة ودرء المخاطر والتحديات المحيطة بتلك المسؤولية، ولعل أكثرها تردداً، بل سذاجة، المطالبات المتكررة بالتدخل في إدارة المقدسات الإسلامية على الأراضي السعودية.ومن بين المواد الإعلامية الدسمة التي قدمتها القناة الوطنية، كانت الوثائقيات التي استضافت أساتذة في التاريخ السعودي والإسلامي، وتجاوزت الطرح المعتاد لوجهة النظر المحلية في الشأن المكي، لتقدم وجهاً مختلفاً مستنبطاً من المرويات والمحكيات الموثقة على أيدي المستشرقين والرحالة القادمين من الغرب، إما بدافع «الفضول» العلمي، أو الانجذاب الروحاني، للتعرف على أسرار هذا الدين، وخصوصاً شعيرة الحج الأكبر، للتعمق في أسباب التعلق المتعاظم للمسلمين بركن دينهم الثالث، على مشقته، زمناً بعد زمن.ويحتفي المحكي التاريخي، بالمواقف التي يسكن فيها هدي الوحي ونور رسالة الإسلام قلوب بعض المستشرقين بعد أن تشبّعت قناعاتهم بأصالة الدين الإسلامي، وبأن الأمر لله من قبل ومن بعد، ليسجلوا، بدورهم، إعجابهم وإقرارهم بالرابطة الوثيقة التي كوّنها العقل والضمير الجمعي للأمة السعودية تجاه الفضل الإلهي باختيار أراضيهم «التاريخية»، مهبطاً للوحي، ومهداً لرسالة أبي الرسل، سيدنا إبراهيم، عليه السلام، ومنبراً مقدساً لخاتم الرسل سيدنا محمد، عليه أفضل الصلوات، ولتأخذ تلك العلاقة، مع مرور الوقت، منحاً جديداً، عنوانه الأسمى، شرف خدمة الحرميّن الشريفين وتعظيم شعائر الرسالة المحمدية وقيمها العليا، دون هوادة.لذا، لم تغفل الشاشة السعودية عن توضيح جانب مخفي وعنصر أساس من مكونات وصفة النجاح التي تعمل عليها الطاقات الوطنية في خدمة المجتمع المكي، بتناولها لدور مؤسسات المجتمع الأهلية وحشود المتطوعين، وبيان حصتهم الكبيرة ضمن جهود إدارة ملف الحج والعمرة، ومن زاوية بالغة الأهمية، ترتبط بكيفية الارتقاء بالجانب القيمي والمعرفي لبناء أخلاقي يعمل على «تعظيم البلد الحرام»، ووفق نظام صارم ومنضبط يجعل من مكة المكرمة واجهة دينية، ذات «أفق حضاري» مستند لذلك الخلق العظيم لسيد المرسلين، و»بنزعة وطنية» تلبي نداء الواجب لخدمة أشرف البقاع.والمشروع، كما تُقرأ أهدافه الداعية للتحلي بقيم تعظيم البلد الحرام، فهماً وممارسة، يقف بخبراته العلمية متأهباً للمساهمة في حماية الدين من «آفة الغلو»، التي حذر نبينا الكريم من أضرارها على أمته، ويعلم بخطورتها - حق العلم – علماؤها وحكماؤها، ليهتم هذا المشروع القيمي الطموح بمعالجة الطارئ من تلك المظاهر، كأن يعمل، مثلاً، من خلال ما سُمي ببرنامج «الوفادة المكية»، بالاستضافة الدورية للنخب الفقهية من مختلف دول العالم الإسلامي، بقصد توحيد الصف الدعوي وتقريب مسافات الحوار الإسلامي – الإسلامي بين كافة المذاهب والملل، كضرورة من ضرورات الوئام بين أتباع الدين الواحد، ومتطلب لنجاح التفاعل الحضاري وتحقيق التعايش الإنساني بين الأمم والشعوب كافة.أما قائمة ما أبدعت في تقديمه الصورة السعودية الحضارية في خدمة ضيوف الرحمن تطول، ويبقى من بين أجمل تلك المشاهد وأكثرها إنسانية، استضافة المملكة لألف حاج من أهالي غزة، وأحدهم هي «الحاجة ميسان» التي فقدت 150 فرداً من عائلتها، لتأتي دعوتها ضمن برنامج «ضيوف خادم الحرمين» برداً وسلاماً على قلبها المفجوع، ولتؤدي مناسكها «بيسر وطمأنينة».فاللهم زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، ووفق بلاد الحرمين وولاة أمره في إعلاء كلمة الدين ونصرة المسلمين.* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة
الرأي
والبيت المعمور..
24 يونيو 2024