في سنة 1919 كتبت صحيفة «شيكاغو تريبيون» عن عملاق صناعة السيارات في أمريكا، هنري فورد، واصفة إياه بالجاهل، فرفع دعوى قانونية على الصحيفة بتهمة التشهير، وسبب وصفهم هذا أن هنري فورد ينقصه التعليم الرسمي، وهذا ما استند عليه محامو دفاع الصحيفة في دفاعهم، وخلال المحاكمة انشغل محامو الصحيفة بتوجيه أسئلة تعجيزية إلى فورد في مواضيع مختلفة مثل العلوم الاجتماعية والعلوم الأخرى، فقط لإثبات عدم أهليته الأكاديمية، ومن بين الأسئلة التي وجهت له، سؤال عن عدد الجنود الذين أرسلتهم بريطانيا لقمع الثورة الأمريكية، ومن الواضح أن هذا السؤال لا يمت إلى صناعة السيارات التي برع فيها فورد بصلة، لكن إجابة فورد كان هادئة جداً، فقال لهم لأحصل على إجابة هذا السؤال أعرف جيداً من يمكنه تزويدي بالإجابة، فأنا أحيط نفسي برجال يزودوني بالمعلومات التي أحتاجها، وكانت خلاصة تلك المحاكمة أنها أثبتت أن هنري فورد رغم نقص تعليمه الأكاديمي كان يمتلك خبرة عملية ومهارات ابتكارية لبناء وإدارة امبراطورية صناعة السيارات.في الواقع تشير واقعة فورد هذه إلى صراع بين الشهادة الأكاديمية والخبرة العملية، حيث عشنا لسنين طويلة وكذلك من سبقنا، نعتبر الحصول على الشهادة مفتاحا للوظيفة أو دخول سوق العمل بشكل عام، وهذا هو حال الأغلبية، بينما هناك من يعتقد أن الشهادة ليست هي الأساس وإنما المفتاح الحقيقي هو الخبرة العملية والمهارات التي يتطلبها سوق العمل، وعلى الأساس الأول بنت المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة أنظمتها لسنين طويلة وما زال أكثرها على هذا الحال، فأصحاب الشهادات الأكاديمية يحصلون على رواتب أعلى مقارنة بأولئك الذين لا يحملوها، لكن هل سيبقى الحال على ما هو عليه، أم سينتهي هذا الصراع لصالح أحد الطرفين ولربما يكون لصالح الخبرة العملية، لا سيما بعد أن أصدرت شركة جوجل في سنة 2020 بياناً يفيد بأن الشهادات الأكاديمية ليست متطلباً للتوظيف، للعديد من المناصب داخل الشركة وأن الأساس هو الخبرة العملية، وهذه إحدى أكبر الشركات في العالم، وسار على خطاها عدد من الشركات، كما أن كثير من المؤسسات بدأت تلمس أهمية الخبرة العملية على الجانب الأكاديمي، لكن تبقى الشهادات الأكاديمية توفر التعليم النظري والمهارات الأساسية التي يحتاجها الفرد لفهم مجاله، وفي المقابل تمكن الخبرة العملية الأفراد من التطبيق العملي.ولحسم هذا الجدل، تشير الوقائع إلى أن هذا الصراع لن يحسم في الوقت القريب لصالح أي طرف من الأطراف، فالشهادات الأكاديمية تعد إثباتاً رسمياً على أن حاملها يمتلك المعارف الأساسية في مجال تخصصه، وفي بعض التخصصات المهنية مثل الطب أو القانون تبقى الشهادة الأكاديمية شرطاً أساسياً لممارسة المهنة، لذا الجمع بين الشهادة والخبرة والموازنة بينهما، هي الخيار الأمثل لدخول سوق العمل، ومع ميل الشركات للخبرة العملية ستكون الشهادات الأكاديمية الصادرة عن برامج أكاديمية تعتمد التدريب العملي وتقدم مقرراتها بطريقة عملية، هي الشهادات الأكثر طلباً في سوق العمل.* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية