التصريحات الملكية الأخيرة، التي تضمنها بيان مجلس الوزراء، في اجتماعه المنعقد الأسبوع الماضي برئاسة جلالة الملك المعظم، جاءت على عادتها، بحبكتها المدروسة، وبأفقها الرحب النابع من رحابة فكر وسعة صدر جلالته، لتوضيح أولويات العمل الراهنة، وبتجديد التأكيد على الثوابت الوطنية، وعلى رأسها، بأن البحرين، ستظل على الدوام، الوطن الحاضن لجميع أهله.ودخولاً في تفاصيل تلك التوجيهات الهامة، التي تفاعل معها كتاب الرأي وفعاليات المجتمع بكثير من الترحيب وبتسجيل انطباعاتهم المختلفة لما تعنيه للمواطن ولأمن ونماء البلاد، أنضم إليهم، من خلال هذه المساحة، لإلقاء الضوء -تحديداً- على الاهتمام الملكي بمعمار البحرين الحضاري.فلا يجب أن نمر مرور الكرام على هذا التوجه النوعي دون فهم واضح لمبررات وأسباب تطوير الهوية العمرانية لمدن البحرين بعناصرها التاريخية والثقافية، انطلاقاً من أم المدن «المحرق»، وانتقالاً لكافة مناطق المملكة التي تحمل ضواحيها قيمة معمارية تاريخية تعيد للأماكن روحها، وتذكّر ببذل الأسلاف، لتصلنا بجذور حضارة ثرية نتحمل مسؤولية تدفق روافدها.فعملية إحياء وتجديد معالم الوسط التاريخي لمدينة المحرق، ومركزها مجمّع دار الحكم ومسجدها الجامع، ستمتد لتشمل مباني عديدة ذات قيمة تراثية، ووحدات سكنية لأهاليها، وغيرها من الإنشاءات الخدمية التي تراعي الطابع المعماري لهذا المركز التاريخي الذي أقره جلالته كأحد مقار الحكم، تكريماً وتخليداً للذكرى العريقة لحكم، المغفور له، الشيخ عيسى بن علي آل خليفة.وقد اعتبر المفكر البحريني أ.د.الأنصاري المحرق، في تلك الفترة التاريخية، وكما تشير ذكرياته حول مدينة النشأة والصبا، بمثابة «الحاضنة لنهضة البحرين الحديثة ومنطلق للدولة عندما اتخذها، حاكم البحرين وتوابعها، الشيخ علي بن عيسى، قاعدة للحكم الوطني في مواجهة سلطات الحماية الأجنبية، وعلى هذه القاعدة الوطنية نمت توجهات الدولة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فكانت -مجتمعة- بمثابة القوة الدافعة لتكوين المؤسسات الوطنية الحديثة على اختلاف مشاربها».ولن يختلف اثنان، على أن المحرق وكما تعرفها الذاكرة الوطنية، لها كذلك من الإسهامات المباشرة في صقل الهوية الثقافية، بتمسكها، أولاً وأخيراً، بالهوية العربية الإسلامية. وضمن نسيجها المجتمعي الخصب، ازدهرت البوادر الأولى للمجتمع الأهلي بمجالسه الفكرية وبنواديه الأدبية ونشاطاته الثقافية، وعلى أرضها قام أول تنظيم تعليمي، ممثلاً في مدرسة الهداية الخليفية، لتضفي، بدورها، أهمية خاصة ليس لتاريخ المدينة وحسب، بل للبحرين بأكملها، ولتنال المحرق، لقباً إضافياً، كـ»عاصمة لنهضة البحرين التعليمية».ونعتقد بأن هذه الحقائق التاريخية التي تكونت لصالح النهضة الوطنية، هي المرتكز للمبادرة الملكية، احتفاءً بذلك التراث الحضاري الخصب، وإيذاناً لانطلاق نشاط تنفيذي منظم تدير تفاصيله الحكومة الموقرة، لترجمة هذه الرؤية الطموحة والحريصة على احتفاظ المحرق بمكانتها، كإشراقة أولى للمشروع الوطني الجامع بمعانيه العميقة في الولاء والانتماء والتحضر المدني.وما يميز هذا الاهتمام الخاص برسم وتحديد الملامح التاريخية لمدن البحرين، ونراه يتشكل في صيغة «مشروع وطني لإحياء الهوية المعمارية»، هو سعيه الجاد لاستكشاف ما «وراء المعمار» بحثاً عن الإنسان، بقصد رفع مستويات التطور الحضاري بتفاعلاته المعرفية والفكرية المنضجة للهوية الثقافية والشخصية الوطنية.ونحسب بأن هذا المشروع الوطني سيراعي عند التنفيذ العناصر الأساسية للتنسيق الحضاري، الذي سيشمل، كمرحلة أولى، المدينتين الأعرق تاريخياً، المحرق والمنامة، لتثبيت وتوثيق «القيمة التاريخية والرمزية والمعنوية» للمواقع وللمباني، تقديراً للعطاء الإنساني الذي شهدته جدران البناء المعماري، وبإضفاء لمسات عصرية تواكب كل متطلب ومعيار هندسي وبيئي لتحقيق «الاستدامة في العمارة».وبهذه المناسبة، نسأل عن مستقبل موقعين تاريخيين مهمين، في كلتا المدينتين، أولهما، «المكتبة الخليفية» التي أُعيد افتتاحها، في العام 2017، بعد توقفها في ستينات القرن الماضي، ومؤسسها هو، حاكم البحرين، الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة «رحمه الله» في 1954، استجابة لطلب مجموعة من الشباب المثقف من العائلة الحاكمة، ومن ضمنهم الشيخ عبدالله بن خالد آل خليفة «رحمه الله»، الذي عيّنه الشيخ سلمان بن حمد رئيساً لها «1954-1962».ونجد، بأن مسألة تفعيلها وتطويرها تتطلب الكثير من العناية والدراية بأهميتها التاريخية لتقوم بدورها في التعريف بحقبة مهمة لتاريخ الحكم، حقبة تميّزت بإشعاعاتها وتفاعلاتها مع المجتمع البحريني، وللمكتبة، بطبيعة الحال، دور معرفي وثقافي نتطلع لتواصله على هذا الصعيد.أما ثاني المواقع، فهو مبنى غرفة التجارة والصناعة البحرينية الذي لا يبعد كثيراً عن سوقها التاريخي العتيق، بتصميمه الهندسي المميز لأحد المهندسين المعماريين العرب، العراقي محمد مكية، وله، على فكرة، شهرة عالمية كبيرة.والمبنى، في رأينا، يستحق الإبقاء عليه كـ«بيت للتجار»، ليقف شاهداً على عصره برمزيته المعنوية التي تشير إلى عراقة ونشاط وتأثير الحركة التجارية البحرينية في البناء الوطني.* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة