هل سمعت يوماً عن منصب «الرئيس التنفيذي لعمليات التنظيم الاستراتيجي لكراسي قاعة الاجتماعات» أو «المستشار الأول للاتصال المؤسسي عبر البريد الإلكتروني»؟! إن لم تسمع بمسميات هذه المناصب، فستسمع بها في يوم ما، خصوصاً عندما يكرم أصحابها على إنجازاتهم الخارقة وتعلن.في السابق أي قبل عشرات السنين، وعندما كانت الظروف المتعلقة بالموارد أصعب وأشد، كانت المؤسسات تعمل بعدد محدود من المناصب وبعناوين واضحة وبسيطة (فراش، ملاحظ، رئيس قسم، مدير شعبة، مدير عام) وعلى شحة الموارد كانوا يؤدون أعمالاً يتذكر منها الأحياء الشيء الكثير، أعمال لم توثقها كاميرا فيديو أو صورة فوتوغرافية، لكن أصحابها كان يشغلهم تقديم عمل حقيقي وإنجاز واقعي، حتى وجدنا أنفسنا في السنوات الأخيرة أمام سيل من المسميات الوظيفية البراقة، فتجد معاون الملاحظ المسؤول عن تنظيم الملفات اليومية وإدخال البيانات في جداول أصبح «مدير الاستراتيجية المعلوماتية»، وآخر يشغل وظيفة «مدير التخطيط اللوجستي» في مؤسسة لا يتضمن عملها عمليات لوجستية، ومهمة هذا المدير توزيع القرطاسية، وآخر شغل منصب «خبير استراتيجيات تسويق» مع أنه لم تنفذ حملة تسويقية في حياته، وكل ما فعله نشر بعض المحتويات على مواقع التواصل الاجتماعي، ناهيك عن ألقاب مثل «رائد الفكر الرقمي» و«رائد الابتكار»، وشيئاً فشيئاً لم تعد هذه المسميات الوظيفية مستغربة، مع أن ظاهرها يبدو وكأنه مستوحى من قصص البطولات الملحمية الإغريقية، ويبدو أن مسميات وظيفية كهذه يجب أن يشغلها أشخاص تفوقوا على الأساطير بأفعالهم الجبارة، لكن سرعان ما تكتشف أن ما تسمعه مجرد أغلفة فخمة لوظائف بسيطة، فالمهام التي كنت تتوقعها من ظاهر هذه المسميات، والمتمثلة في تحسين وتيسير حياة البشر، ما هي إلا إعادة تسمية للمهام البسيطة اليومية المملة، لكنها بغلاف يوحي لك بإنجازات جبارة تتحقق، والأمر لا يتوقف على أصحاب المناصب، بل تجاوزه إلى الوظائف البسيطة، فأصبح الكل «خبير، أخصائي، محلل، الخ».

تزداد هذه المسميات بريقاً ولمعاناً عندما تبدأ مسرحية منح أصحابها جوائز الإبداع والتميز في العمل، ترافقها صور الاحتفال بالإنجازات العظيمة وكأن صاحبها حطم الأرقام القياسية في موسوعة غينيس، مع أنه في الواقع أدى أعماله الروتينية اليومية وأقصى ما حققه هو المحافظة على النظام ومجريات العمل اليومية، لكن التفاخر والتباهي في الألقاب في المواقع الوظيفية أصبح ضرورة ملحة، فكثير ممن يشغلونها يهمهم العنوان الوظيفي أكثر من الوظيفة ومهامها، واختراع الألقاب فن يتقنه بعض الأشخاص، مفتاحه كلمات مثل «استراتيجي، لوجستي، إبداعي، ابتكاري، وغير» تربط بمهام يومية عادية تحول بعد ذلك شاغلها إلى شخصية مرموقة وبطل خارق في أعين الناس لا سيما بعد أن تتكلل بصور فتوغرافية لأول إنجاز «لأعمال يومية»، حتى تقلصت المهام اليومية أمام هيبة الألقاب التي أصبحت أثمن من العمل.

في الواقع كل ما نراه مجرد فقاعات براقة، يضخم فيها الجميع أنفسهم، والوقت قد حان لإدراك أن هذه الألقاب والمسميات لا ترفع من قيمة أصحابها، ولا تترك أثراً بعدها، وأن ما يبقى هو الإنجاز الفعلي.