من السهل أن يتقبل الإنسان الأعراض المرضية، بدنية كانت أو نفسية، عندما يصاب بها شخصياً، أو غيره من البشر، ولكن أن يمرض الوعي العالمي، ويدخل في حالة من اللامبالاة الشبيهة بالموت السريري، فهنا المصاب كبير.
فالعالم، وكما نسمع ونرى، يعاني، فوق ما يعانيه من انفصام «سايكوباتي» شنيع لسلوكه الإنساني، نراه مصاباً بحالة غريبة من «التسيّب» أو «السيولة» في حكمته، مما أوصله إلى حالة من الشلل العام التي تنسد معها منافذ الخروج من تعقيدات أزماته وصراعاته.
وقد يعتبر البعض هذا التشخيص للمزاج العالمي المرتبط -تحديداً- بأداء مؤسساته في المجتمعات الفاعلة والمتحكمة بمصيره، يشوبه نوع من السوداوية، وشيء من التزيد والمبالغة التي ليس لها موقع من الإعراب، لنطالب هؤلاء «المتفائلين» بلائحة مبرراتهم المشفوعة بالمستندات، لإثبات عكس ذلك!وإلا كيف نفسّر تزايد واستمرار النقائض في المواقف العالمية التي نراها تؤثر سلباً على مستقبل بقائنا وسكوننا الإنساني؟فمثلاً، تلام الدول المنتجة للنفط الصخري بأنها السبب الأول لدمار البيئة وتغير المناخ والاحتباس الحراري والانكماش الحلمنتيشي، إلى آخره من التوصيفات المناخية المرعبة، في الوقت الذي يستمر العالم في إنتاج ترسانته العسكرية بكل ملوثاتها وأضرارها على البيئة، أضف لذلك، استخداماتها المميتة على ابن آدم.
أما النقيض البغيض في هذه المسألة، مجاهرة العالم نهاراً، بضرورات السلام والوئام ونصرة الإنسان، ليغض البصر ليلاً، عن شحنات أعالي البحار لتأمين إمدادات النزاعات!ومن بين أعراض هذا التشويش الذي تعاني منه دوائر القرار العالمية، عرض الأخذ بأضعف الإيمان في مواجهة المصائب والأزمات، كعبارات الاستنكار والشجب والرفض التام.
وأحياناً لأجل ذر الرماد في العيون، قد يمر على مسامعنا قول مطالب بإيقاع أشد العقوبات على دولة ألف أو جمهورية باء، وبتكرار ملّ منه حتى أشطر الشطار.
والأمرّ من ذلك، ما يُرسل للجماهير، المغلوبة على أمرها، من رسائل مرعبة ومتنافرة من على أعتى المنابر السياسية، فهناك من يلّوح لها بقدوم حرب عالمية ثالثة، لا محالة، على فرضية أننا نعيش في العسل! ليأتي من بعده من يهدد بقيام حرب نووية، وفي أحسن الأحوال، يأتيهم خبر يمنّيهم بوقف إطلاق النار والمشروط بألف قيد وتحذير.
والنتيجة بقاء الجماهير المُتعبة في حالة «حيص بيص»، فالملايين التي هُجّرت، ويقال لها إنها انتصرت في معركة الحرية والعزة والكرامة! هي في الواقع مسلوبة الإرادة، وتبحث عن معاني العزة والكرامة في قاموس الذل والمهانة!ولعل من باب تهدئة النفس المتعبة، لربما تكون حالة التناقضات هذه، بمثابة النظرية السياسية الجديدة التي تُجرّب في مختبرات اللعب بالمصائر، كالتي عرفتها الدهاليز السياسية الكبرى في منتصف التسعينات من القرن الماضي، وأُطلق عليها نظرية «الاحتواء المزدوج» لضبط قوى الشر الصاعدة، بحسب رأي منظّريها، وكانت إحدى نتائجها التخلص من العراق «البعثي» جملة وتفصيلاً، ولكن لسبب غير مستغرب، لم تتمكن تكتيكاتها من احتواء إيران «الثورية» التي تسرح وتمرح بأجندتها السائلة، هي الأخرى، والمشحونة بالتناقضات.
ولكن هل تعلمون ما هي أبشع تلك التناقضات؟ في رأيي، هي ظاهرة ازدواجية المواقف لأهل «الولاءات المزدوجة»، التي تنتشر كالطاعون وتجتاح كالطوفان لاقتلاع ما يؤدي لثبات الدولة المدنية الناضجة والمستقرة، والباحثة عن كل فرصة في جوف التحديات لسلامة رأس شعوبها.
فهناك، على ساحات الدولة المدنية نرى المعنى الحقيقي للعزة والكرامة، ونرى على قمتها قادة يعرفون معنى وقيمة السلام، ويتمسّكون، بكل ما أوتوا من قوة، بمسؤولياتهم الأخلاقية تجاه شعوبهم، ويجعلون تحصين جبهتهم الداخلية أول أولوياتهم لصد من تسوّل له نفسه ببث نَفَس الفتنة المقيت، والتشكيك في هوية الدولة وشخصيتها الوطنية، وولاءات من ينتمون لها ويخلصون لترابها، والبحرين، كما يراها أولو الألباب، المثال على ذلك.
أما آخر القول: هل الزلازل التي تشهدها المنطقة، ويتمّ استغلال تداعياتها لتحقيق الاختراقات وكشف الأوراق وتصفية الحسابات، هي حالة مخاض مؤقت لولادة نظام إقليمي جديد؟إن كان الأمر كذلك، فهل ثمة استعداد عربي للتحرك وسط الضباب، لمسك زمام مرحلة جديدة من المراجعات، ومعالجة الفراغات، وقطع الطرقات، وباشتراطات تقوم على قاعدة «لن تأخذ قبل أن تعطي»؟