في لحظة صدق وصراحة، تحدث وينستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق عن حياته بما يدعو للتأمل والسخرية في آن واحد، فالرجل مع أنه صاحب منصب رفيع وراتب شهري مرتفع قياساً بباقي الموظفين -حتى السياسيين منهم- إلا أنه في نهاية المطاف يبقى ذلك الموظف الذي يتقاضى راتبه في آخر الشهر، ومع ذلك كان يعيش حياة الترف والبذخ، فلم يكن السيجار باهض الثمن يفارق يده، بالإضافة إلى ولعه بالويسكي المعتّق، ونتيجة لطابع حياته كان عليه الاقتراض لتسيير أموره، ولم يجد في اقتراضه المستمر أي عيب مع أنه صاحب نفوذ وله هيبة. تشرشل في سلوكه هذا ليس غريباً عن المجتمع، إنه مجرد مثال صارخ للتناقض الذي نعيشه نحن أعضاء نادي الموظفين محدودي الدخل.
أعضاء هذا النادي «أغلبهم» ينظر إلى الادخار على أنه أحد أفراد العائلة الذين تبرأت العائلة منه قبل أن نولد، لجلبه العار لها، فلا نعرف وضعه وكم له من الأبناء، وعندما يأخذنا الحنين إليه ونفكر في التعرف عليه ومحاولة ضمه مرة، سرعان ما نكتشف أن آباءنا كانوا محقين في طرده من العائلة، فكأن الاقتراب منه يعرضنا إلى لسعة مؤلمة، من جهة أخرى ينظر أعضاء هذا النادي إلى الدينار على أنه ذلك الكناري بألوانه الزاهية وصوته الجميل، ومن الظلم أن نحسبه في قفص، بل علينا إطلاقه ليسمع العالم صوته، اللطيف في الأمر أن نظرة الأغنياء «غير محدودي الدخل» للدينار هي ذات النظرة، أيضاً يرون الدينار كطائر، لكنه «طير حر» صقر، يطلق عندما يرى الصيد ليعود مرة أخرى وقد جلب معه صيده، أما الكناري لدينا فهو أيضاً يعود في كثير من الأحيان، لكنه يعود ليأخذ ما تبقى من بني جلدته ممن دخلوا أقفاصنا في آخر الشهر.
فئة الموظفين محدودي الدخل، فئة تتفنن في إيجاد منافذ لصرف مدخولاتها «المحدودة» -هذا على افتراض أن المدخولات الشهرية كافية لمتطلبات الحياة الضرورية- فتخطيط الإنفاق لديها عشوائي، يرافقه اندفاع في الصرف، فبمجرد علمهم بزيادة في الراتب، أو مكافأة في الأفق، أو أي مال يأتي زيادة على المقدار الشهري الذي يدخل في جيوبهم، تتزاحم أفكار الإنفاق الإبداعية في أذهانهم، فالهاتف بحاجة إلى تغيير، والسيارة تحتاج إلى إضافات أو تغيير، وقائمة لها أول وليس لها آخر، وما هي إلا فترة بسيطة ويجد كل منا نفسه مرتبطاً بعلاقة «دَيْن» مع بطاقته الائتمانية التي استخرجها أول مرة لتساعده في تأجير سيارة «كضمان» عند السفر أو غيرها من المعاملات، ثم يدخل في «علاقات» ديون أخرى مع البنوك، وهذه وحدها كفيلة بجره إلى مستنقع لن يخرج منه إلا إلى قبره.
حقيقة الأمر أن أغلب أعضاء نادي الموظفين ذوي الدخل المحدود، الذين لديهم مدخول شهري يكفيهم لحياة تتناسب وحياة الموظف «الأجير» يتناسون أنهم في نهاية المطاف، «أُجَرَاء» لابد وأن يأتي يوم ليُستأجر غيرهم ويُستغنى عنهم، فتغريهم الألقاب والمناصب الوقتية المرتبطة بالوظيفة نفسها، ويتصرفون على أساس بريق مسمياتها، فيعيشون في مستوى لا يتناسب تماماً مع حجم مدخولاتهم، وعلى هذه الفئة تعتمد الصناعة في العالم، فهم أكبر المستهلكين.. يا سادة، نحن فئة نتسابق نحو الإفلاس رفيع المستوى.