يتفق رهطٌ لا بأس به من المهتمين بدراسة تاريخ منطقة الخليج العربي وتتبُّع أثر الحضارات التي ازدهرت على ضفافه، بأن هذا الإقليم المشرقي قد ظُلم ظلماً كبيراً، وهُضم حقه التاريخي ككيان فاعل يرتقي لمستوى الإنتاج الحضاري.. المعترف به اعترافاً كاملاً ضمن الفضاء الأوسع للحضارة الإنسانية العالمية.

ومثل هذه العزلة التي مورست على حضارات حوض الخليج العربي يعود أول أسبابها إلى رأي سائد بأن شعوب المنطقة، في حقبة ما قبل الإسلام، كانوا يعيشون في عزلة حضارية، ولم يكن لهم من الفعل والإنجاز ما يستحق الدراسة أو التوثيق.

ومن أشهر من تنبه للعزلة التاريخية التي أدت إلى نوع من القطيعة الحضارية بين حقبتين مهمتين في تاريخ العرب، أي قبل وبعد الإسلام، هو المؤرخ اللبناني جورجي زيدان، الذي اعتبر تاريخ ما قبل الإسلام بأنه من «أسقم» تواريخ الأمم!

ولاحظ المؤرخ، بأنه على الرغم من وجود عدد لا بأس به من المصادر التي استند لها جمهور الباحثين، وتنوعت بين أشعار العرب، وأخبار اليهود في اليمن والحجاز، والكنائس المسيحية في العراق، وغيرها، إلا أن عمليات التدوين لم تتحلَ بالدقة المطلوبة في نقل واقع الأحداث، وهو ما أدى إلى تعرّض تفاصيلها إما للنسيان، أو التزييف، أو الإلغاء الذي يمارس أحياناً من «الخلف» لطمس إنجازات «السلف»!

وهذا التقطع في نقل الصورة الحقيقية لمجرى التاريخ بأحداثه الرئيسية، يضفي نوعاً من الضبابية على حركة الزمن وتحولاته، ويجعل سرديته ومروياته فاقدة للحقيقة ومشوشة لرؤية دارسي التاريخ، هذا إلى جانب المساس بمصداقية الدروس والعبر التي يفترض أن تتحول إلى مصدر إلهام وتنوير لصنّاع سرديات الحاضر والمستقبل.

ونرى بأن مثل هذا الإشكال يستدعي القيام بمراجعات علمية متعمقة لتقييم الدراسات التي تتناول منطقتنا الخليجية، كخطوة ضرورية لاستعادة رتبتها وأهميتها ضمن سياقات الحضارة العالمية، ويبدأ ذلك بتأمين التدفق البحثي المراعي للتسلسل الزمني والمنطقي للتاريخ الخاص بالمنطقة.

ونجد في مثل هذه المراجعات ما يعين على تجاوز وتفادي أسباب القطيعة بين الحقب، ووقف تسرّب كنوز من المعرفة والحقائق المرتبطة بعناصر تكوين الهوية الوطنية أو الجمعية.

فالدراسة المتعمقة للتاريخ والقائمة على التأسيس المنهجي والمنتظم، تُعتبر المجال أو المصدر الوحيد الذي يستطيع، إن التزم بالحيادية والموضوعية والأمانة العلمية في التسجيل والتحليل، أن يُنتج مادة رصينة لفهم ظواهر التغيّر الاجتماعي بفرضياتها واحتمالاتها لصيغة وطبيعة التحولات الثقافية، واستعداد المجتمع، بمؤسساته وأفراده، على حماية تلك التحولات من التقلبات المعاكسة لحركة التقدم.

فمثلاً، إذا عدنا للحضارات التي عرفتها «البحرين التاريخية الكبرى»، الممتدة من تخوم البصرة إلى ربوع عمان مروراً بالإحساء وقطر، والأدوار التي تولتها كوسيط تجاري وحضاري ربط الحضارات السندية بالحضارات البابلية والسومرية، إلى جانب الحضارات التي أقامت على شواطئها، يتضح، والاستنتاج هنا للمفكر الأنصاري، بأن هذا الدور الحضاري سيمهد لتشكيل شخصية البحرين التي نعرفها اليوم، «بمجتمعها المتسامح والمسالم، الذي يؤمن بحرية الفكر والمعتقد، ويتطلع بمحبة إلى سائر التيارات الحضارية الإنسانية».

فإذن لنتفق على أن التاريخ، ومتى ما تمت دراسته دراسة علمية صحيحة ودون انقطاعات تؤدي إلى فقدان جزء من الذاكرة أو تغييب التجارب الإنسانية، فسيتحول إلى وجبة مغذية ومقوية لوعي المجتمعات لتصبح أكثر فهماً لواقعها، وأشد تفهماً لمتطلبات عالمها، وسينمو، بطبيعة الحال، استعدادها لإنتاج حضارتها الخاصة بها.

فإذا اتفقنا على ذلك، ما قولكم في أن تبادر المؤسسات البحثية – الثقافية المهتمة بصحة وصحوة الهوية الجمعية في صورتها المعبرة عن كيان الأمة وقيمها الحضارية، ما قولكم، في تبنيها لفكرة قديمة للدكتور الأنصاري، ولكنها متجددة لأهميتها، والتي تتمثل بالتحقيق في معجم شامل وجامع لرجال الثقافة والأدب والعلم والدين، بدءاً من البحرين وانتقالاً للخليج العربي عبر التاريخ، ووصولاً للعصر الحديث.

فهؤلاء الشخوص لهم، دون شك، من الجهود العلمية والإسهامات الفكرية التي تستحق الحفظ والتأمل، ومن الأفضل أن ننشغل في اقتفاء أثرهم بدلاً من الانشغال في تاريخ الأمراض والطواعين، عافاكم الله.

* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة