ها هو شهر ديسمبر على الأبواب.. بمواعيده العزيزة على قلوب أهل البحرين وهم يستقبلون نسائم الفرح بالاستبشار بالغد المشرق، وبالإصرار على وحدة كلمتهم، وتماسك صفوفهم أياً كانت الظروف..وها هي البحرين تتألق، برصيدها الوافر من الإنجازات، في مناسبة اليوبيل الفضي لتولي ملك البلاد المعظم مقاليد الحكم وانطلاقة عهد التجديد والإصلاح..
فأهلاً ومرحباً بعيد الوطن وعيد الجلوس لحكم خليفي أصيل نُسِجت روابطه في أعماق تاريخ «بحرين وائل»، المنتمية للحضارة العربية والإسلامية.. قلباً وقالباً، والمتمسكة بكل ما يعلي شأن الأمة العربية ويوحد كلمة المسلمين، والمشهود لها بمواقفها الشهمة ومبادراتها الشجاعة، فهي، لا تتردد للحظة في الإقدام على تلبية واجباتها الإنسانية ونصرة كل قضية عادلة.
ولقد تحول مثل هذا النهج البحريني إلى قاعدة ثابتة صاغت تفاصيلها المشاعر القومية المخلصة التي يتحلى بها قادة البلاد وشعبها، لتستقر كسمة من سمات هويتنا الإنسانية، وهو نهج يجب أن نستمر بالتأكيد عليه، خاصة في لحظات ومقامات تجديد عهود الوفاء للوطن، وفي مناسبات تكريم الذكرى العطرة لأبناء البحرين البررة الذين قدموا أرواحهم فداءً ودفاعاً عن سيادة وسلامة بلادهم وأمتهم، مسجلين بذلك، رحمهم الله، المعنى الحقيقي للتضحية وتأمين طريق المستقبل.
وكما أشرنا في بداية المقال، فإن أعياد هذا العام لها نكهتها الخاصة الممزوجة بمستخلص التجربة الوطنية، التي تميزت بنقلتها النوعية في بنيان الدولة البحرينية ذات الزخم التنموي المتصاعد نحو نهضة مستدامة ومتطورة مع تطور الزمان وطموح كل زمان.
والمؤكد هنا، بأن هذه النهضة الإصلاحية المفعمة بروح التجديد لم تكن وليدة لحظتها، بل جاءت كنتيجة لوعي يقظ لمتطلبات إنشاء الدولة متكاملة الأركان، وهو ما تبناه حكام البحرين من المؤسسين الأوائل، ومن سار على خطاهم، من الخلف المخلص، الذين استوعبوا متطلبات مراحل البناء، وشرعوا في التخطيط المبكر لرؤيتهم في الحكم وإدارة الدولة، ولنا في قائد المسيرة الوطنية أبلغ وأصدق مثل.
فالبحرين تحظى اليوم بنموذج قيادي لرجل الدولة «المفكر»، ونعني بذلك، ما يتمتع به فكره من قدرة فائقة على الاستشراف النابع من رحابة أفقه السياسي، وحصيلة تجاربه الثرية والمتنوعة بين الممارسة العسكرية والخبرة الميدانية في الخدمة الوطنية، ناهيك عن الفهم العميق لتحديات التنمية وسبل علاجها.
وسنهضم حق أنفسنا إن لم نستمد من دروس هذه التجربة القيادية الثرية، ما يلهمنا ويلزمنا لتجديد وتنشيط وعينا الوطني، ونحن نتجه لبحرين المستقبل.
وأعود لأُذكر هنا، بكتابي «الضوء الأول»، و«سلسلة أحاديث في الوعي الوطني»، وكلاهما بقلم جلالته، كأحد أهم المراجع التي يجب إعادة قراءتها على وقع ما تحقق منها.
فعلى الرغم من صدور الكتابين بفارق كبير في التوقيت، إلا إنهما يتفقان في الخلاصة على أولوية القيام بالإصلاح الاجتماعي بموازاة أي إصلاح اقتصادي مع ضرورة الإيفاء التام لمتطلبات المشاركة السياسية، من أجل ضمان حسن سير أي نهوض تنموي.
وكما يُفهم من مثل هذا الطرح الوجيه، فإن سياسات التنمية لن تقوم لها قائمة، دون مراعاة النواحي الاجتماعية والإنسانية، ولن يتمكن أي مجتمع من حل مشكلات التنمية دون الحذر من «الاختلال بين موازين النمو الاقتصادي والتغيير الاجتماعي»، وهذا يتطلب، بحسب ما يمليه الفكر الملكي الرصين، تبني مجموعة من «القيم المدنية الهامة»، نوجزها في التالي:
- ترسيخ مبدأ النزاهة في العمل للصالح العام واحترام الأنظمة والقوانين.
- إعلاء قيم التسامح والتعايش، والتصدي لاتجاهات التعصب والتطرف العقائدي والفكري.
- الاهتمام الكامل باستيعاب وممارسة مفاهيم الولاء الوطني والانتماء العروبي.
- تثبيت قيمة المشاركة في تطوير المجتمع، وإحياء أصول العمل في مجال الخدمة العامة لدى الشباب، وبعيداً عن التنظير.
- احترام قيمة الوقت في الحياة اليومية، وقيمة العمل الحر والمبدع، وضرورة التحلي بالخلق المدني المتحضر الذي يبدأ من مرحلة النقش في الحجر.
- مقاومة النزعة الاستهلاكية والمبالغة في المظاهر الاجتماعية المستنزفة لموارد الأسرة.
- وأخيراً وليس آخراً، حماية مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وتقدير دور المرأة البحرينية في الحياة العامة، وضمان مشاركتها الكاملة في سائر خطط التنمية بمدلولها الشامل، ونهنئها، بهذه المناسبة، على هذا التقدير الخاص لدورها، وبعيدها السنوي الموافق للأول من ديسمبر.
وأعتقد بأن مثل هذا الطرح الوجيه والمتجدد في أهميته، يشير إلى تنبه جلالته المبكر لأهمية اعتناق هذه القيم المدنية لتسكن قلب الوعي الوطني، وهذا لن يتحقق، والرأي هنا لصاحب القلم الرصين، إلا «بتوافر القيادات الوطنية المؤهلة، والقادرة على إحداث التغييرات المطلوبة لإيجاد الأنماط السلوكية المنضبطة، والمتطورة، والمتحدة مع جذورها»، والتي تعرف تمام المعرفة كيف تنفذ وتنسجم مع واقعها.
وهو ما يجب أن تواصل البحرين بالعمل من أجله ضمن عمليات التخطيط للغد، بالاستجابة الكاملة لهذه الرؤية الملكية، التي هي في الواقع «جوهرة التاج» البحريني، المشعة ببريقها، والثمينة بطموحاتها من أجل استمرار نهضة البحرين الحضارية واستقرار دولتها الوطنية.
* عضو مؤسس دارة محمد جابر الأنصاري للفكر والثقافة