في خضم التغيرات السريعة التي يشهدها سوق العمل، تبرز قضية التخصصات الجامعية كواحدة من أهم التحديات التي تواجه الطلبة وأولياء الأمور وصناع القرار.
رغم وفرة الخريجين في التخصصات التقليدية مثل الهندسة، الطب، التعليم، والقانون، إلا أن السوق يواجه صعوبات حقيقية في استيعاب هذا العدد الكبير، مما أدى إلى تزايد معدلات البطالة في هذه المجالات.
في المقابل، نجد أن العديد من الوظائف الحديثة التي تعتمد على التكنولوجيا والابتكار تعاني من نقص الكوادر المؤهلة لتلبيتها.
إحدى الحجج التي يكررها المسؤولون في القطاعين العام والخاص عند توظيف الأجانب هي غياب ما يُسمى بـ»التخصصات النادرة» بين خريجي الجامعات البحرينية.
ولكن، ما هي هذه التخصصات النادرة؟ الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تبقى غامضة في كثير من الأحيان، مما يثير التساؤلات حول مدى دقة هذا التبرير.
ومع ذلك، تُظهر بعض التقارير وجود نقص حقيقي في مجالات دقيقة مثل طب السموم، الجراحات الجلدية، الأشعة النووية، وعلاج الآلام، وهي مجالات تحتاج إلى استثمارات تعليمية موجهة لتطويرها.
في المقابل، تبرز تخصصات حديثة كالأمن السيبراني، الذكاء الاصطناعي، علم البيانات، الطاقة المتجددة، والتكنولوجيا المالية كفرص واعدة في سوق العمل.
هذه التخصصات لا تكتفي بسد الفجوة الحالية، بل تستشرف احتياجات المستقبل. على سبيل المثال، من المتوقع أن يشهد قطاع الذكاء الاصطناعي نمواً بنسبة 50% خلال السنوات المقبلة، مما يعكس أهمية توجيه الطلبة نحو هذه المجالات المتطورة.
لكن تحديد احتياجات السوق يتطلب منظومة متكاملة تجمع بين الجامعات، الهيئات الحكومية، والقطاع الخاص.
يجب إجراء دراسات دورية لتقييم احتياجات سوق العمل بشكل دقيق ومستقبلي، مع وضع خطط لتقليص التخصصات التي تعاني من فائض وإدخال برامج أكاديمية جديدة تستجيب لاحتياجات السوق المتغيرة.
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تضطلع الجامعات بدور أكبر في توجيه الطلبة من خلال تقديم برامج إرشاد مهني فعالة تشمل بيانات حول فرص التوظيف، متوسط الرواتب، والمهارات المطلوبة.
ولا يمكن إغفال مسؤولية الطلبة أنفسهم في اختيار تخصصاتهم. الاختيار الجامعي اليوم لم يعد مجرد قرار عاطفي أو اجتماعي، بل هو استثمار استراتيجي في المستقبل.
يجب أن يدرك الطلبة أن التعليم الذي يلبي متطلبات السوق هو الجسر نحو مستقبل مهني مستقر وواعد. التخصصات الحديثة ليست خياراً إضافياً، بل هي الفرصة التي تضمن تحقيق طموحاتهم المهنية.
في النهاية، نجاح أي مجتمع يعتمد على تحقيق التوازن بين التعليم واحتياجات سوق العمل. هذا الهدف يتطلب تعاوناً مشتركاً بين الجامعات، الجهات الحكومية، والطلبة، لتشكيل نظام تعليمي يتسم بالمرونة والرؤية المستقبلية. التعليم ليس مجرد وسيلة لتحقيق الذات، بل هو ركيزة أساسية لبناء وطن قوي واقتصاد مزدهر. الاختيار الصحيح اليوم سيصنع الفارق غداً.