في سبتمبر 2022 كان فيليب باكسون يقود سيارته عائداً إلى منزله في ولاية كارولينا الشمالية في أمريكا بعد حفلة عائلية، وكعادة أغلبنا لجأ إلى خرائط غوغل ليجد أفضل طريق للعودة، وبالفعل أرشده النظام إلى طريق مختصر، الأمر بسيط وغير معقّد والرحلة قصيرة، حتى انتهت نهاية مأساوية عندما سقطت السيارة في المياه من جسر منهار منذ مدة.
الحادثة هذه تلخّص ببساطة واقع أغلب البشر في هذا العصر، فالأغلب يعتمد على آراء وأدوات خارجية أكثر من الاعتماد على العقول، حتى إن سلسلة القرارات التي نحتاج إلى اتخاذها في حياتنا وأعني تلك القرارات اليومية البسيطة، نعتمد فيها على رأي التكنولوجيا الحديثة والتي يتزعمها chatgpt هذه الأيام، أو أننا نبحث عن رأي الآخرين، الذين هم في الغالب ليسوا خبراء لكنهم ما يعرف اليوم بالمؤثرين، أو في الواقع أبطال منصات التواصل الاجتماعي، ما يعني أن أغلبنا فقد القدرة على اتخاذ القرارات بنفسه، وفقد الاعتماد على تجاربه وحسّه الشخصي في اتخاذ القرارات، وقد وصل الأمر عند بعض الأشخاص أنه إذا أراد شراء زجاجة ماء بدأ بحثه عن رأي، فأي العلامات التجارية أفضل، وماذا قال المؤثرون عن هذا النوع من الماء، فتتحول القرارات اللحظية البسيطة إلى قرارات مصيرية، والسبب هو الهوس برأي المؤثرين والتكنولوجيا.
المشكلة الأخرى تكمن في من نبحث عن رأيه، فعلى مستوى التكنولوجيا ولنأخذ chatgpt مثلاً، فهذه المنصة المفيدة إلى حدّ كبير، مليئة بالأكاذيب والأخطاء، وأذكر جيداً عندما اشتركت في هذه المنصة في بداية ظهورها ظهرت لي رسالة في خطوات التسجيل أجب عنها بـ"موافق"، الرسالة على لسان المنصة تقول بما معناه ومختصره: "أنا أكذب وعنصري" وتبيّن السبب في أن المنصة تعتمد على مدخلات جميع البشر، فإذا كانت المدخلات التي تستهدف عرقاً أو ديناً أكثر فسيظهر ذلك على آراء النظام وكذلك المعلومات الخاطئة والكاذبة، أما المؤثرون الذين أصبحوا يقودون في هذاً العصر فإن أكثر محتواهم وما يقدموه هو التفاهة، وأكثرهم واجهات إعلانية ومهمتهم الترويج لشركات ومنتجاتها، وهذا مصدر رزق بالنسبة لهم، وفي الغالب لا يستخدمون المنتجات التي يروجون لها، ومع ذلك يخبرونك أن هذه المنتجات هي سر صحتهم أو راحتهم، كما نشاهد كل يوم، وما يحصل أننا نبحث عن الرأي ونحصل عليه عند هؤلاء ونأخذ به، ونستهلك منتجات ليست الأفضل لكنها مدعومة بالرأي، وأي رأي!.
في الواقع نحن نتجه في طبيعة حياتنا إلى نوع جديد من أنواع العبودية، تتحول فيه آراؤنا إلى مسألة ثانوية، ونعتمد بالكامل على آراء الآخرين والتكنولوجيا، وربما سيؤثر ذلك بعد مدة على إنسانيتنا، وهذا الأمر يزداد بشكل كبير كلما زاد انغماسنا في وسائط التواصل الاجتماعي، وكلما جعلناها مرجعاً لنا، وشيئاً فشيئاً نتجه نحو التفكير الجماعي لنكون ضمن منظومة تقاد من قبل مجهولين وفي الواجهة ما يعرف بالمؤثرين الاجتماعيين.
نحن نحتاج إلى إعادة التفكير في سلوكياتنا اليومية، وإلى فترة صمت، لنعوّد أنفسنا على اتخاذ قرارات بناء على خبراتنا وما نريده، لا على أساس ما يريده غيرنا.