لم تمضِ أكثر من 28 يوماً على تولي دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة، وها هو بدأ العبث بمستقبل الشرق الأوسط بطريقة لم يكن يتوقعها حتى أكثر المتشائمين من سياسته. فبعد أن وعد بإنهاء الحروب والصراعات في المنطقة، دخل بشخصية جديدة أكثر هزلية واستغلالية، متقمصاً دور التاجر الأمريكي بدلاً من السياسي الدبلوماسي.
ترامب خالف التوقعات، وتحول من موقف الوسيط المتوقع إلى دور مباشر في التصعيد الإقليمي. كانت حكومة الاحتلال الإسرائيلي تأمل أن ينهي ترامب الحرب التي أشعلتها وتورطت فيها، غير قادرة على التراجع خوفاً على سمعتها - رغم أنها غير موجودة أصلاً - فحتى أقوى جيش لم يتمكن من القضاء على مجموعة مقاتلين بأسلحة خفيفة. وجدت إسرائيل الحل في تحميل ترامب المسؤولية، ليبرر انسحابها ورضوخها باعتباره "إرادة أمريكية". لكن المفاجأة جاءت حين زار بنيامين نتنياهو البيت الأبيض قبل أسابيع، ليجد دعماً أمريكياً غير مسبوق، ليس فقط بالمال والسلاح، بل بتقديم أهداف وخطط واللعب كشريك مباشر في هذا القتال.
لم يكتفِ ترامب بذلك، بل تجاوز توقعات أكثر المتطرفين الصهاينة، بإعادة إحياء فكرة تهجير الشعب الفلسطيني، في تجاهل تام للقرار العربي والإرادة الفلسطينية. تهجير الفلسطينيين ليس مجرد خطة مرحلية، بل جزءاً من مشروع لإلغاء الوجود الفلسطيني ككيان سياسي، وتحويلهم إلى مجموعات بلا هوية واضحة، تحت مسميات جديدة في مناطق تُختار لهم مسبقاً. والواقع أن هذه ليست إلا المرحلة الأولى لمشروع "إسرائيل الكبرى"، الذي لا يُنظر إليه كفكرة فقط، بل كعقيدة ونبوءة لدى هذا الكيان المحتل.
الأراضي الفلسطينية المتبقية بين الضفة الغربية وقطاع غزة لا تحتاج سوى إلى معابر لتنفيذ هذا المخطط، حيث يتم تهجير أهل الضفة إلى الأردن، وأهل غزة إلى سيناء، كمرحلة انتقالية نحو مخطط أكبر. وتحت قيادة ترامب ونتنياهو، لن يكون القادم خيراً أبداً، بل بداية لفوضى وصراعات جديدة في المنطقة، تُمنح تسميات جديدة لاحقاً لتبرير الاستيلاء على المزيد من الأراضي بحجة "المناطق الآمنة" لإسرائيل.
الموقف العربي، رغم تحدياته، لايزال يسعى لحماية المصالح الاستراتيجية وتجنب التصعيد غير المحسوب، مع التمسك بالمبادئ الثابتة للقضية الفلسطينية. لكن ترامب، خلال لقائه الأخير مع الملك عبدالله الثاني في البيت الأبيض، أظهر استهتاره بالرأي العربي، محاولاً إحراج العاهل الأردني وإظهاره بمظهر الضعيف أمام شعبه. إلا أن الحنكة السياسية لملك الأردن الملك عبدالله مكنته من تجاوز المهزلة وفرض موقفاً لم يكن ترامب يتوقعه، حيث أشار أن الرد العربي سيكون موحداً بعد التشاور والإجماع، وأن التهجير ليس محل مساومة أو نقاش، بل هو خط أحمر لا رجعة عنه. فالهدف الوحيد المقبول لجميع زعماء العرب هو إقامة دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود 4 يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
علاوة على ذلك، كشفت تقارير صحفية وتصريحات رسمية أن إدارة ترامب لوحت في أكثر من مناسبة بوقف المساعدات لكل من الأردن ومصر، في حال رفضتا استقبال الفلسطينيين كجزء من خطة تهجير قسرية، في محاولة لفرض واقع جديد على المنطقة، دون اعتبار لرغبة الشعوب العربية أو الشرعية الدولية. وفقاً لتقارير نشرتها صحف أمريكية مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست، فإن مسؤولين في إدارة ترامب ناقشوا علناً خفض المساعدات المالية للدول الرافضة للخطة.
إلى جانب الدعم المالي والسياسي، زودت إدارة ترامب إسرائيل بأنظمة دفاع متطورة، وسهلت تمرير صفقات عسكرية استراتيجية عززت تفوقها العسكري في المنطقة، مما أعطاها غطاءً إضافياً لمواصلة سياساتها التوسعية.
المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، لا يزال يعارض أي خطوة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين، معتبراً ذلك انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي ولقرارات مجلس الأمن. هذا الموقف يعكس إدراكاً عالمياً لمخاطر هذه السياسات على استقرار المنطقة.
على الدول العربية، إلى جانب رفض مشروع التهجير، أن تضع استراتيجيات سياسية ودبلوماسية موحدة، تشمل الضغط على الإدارة الأمريكية من خلال الحلفاء الدوليين، وتحريك الملف الفلسطيني داخل الأمم المتحدة، وتعزيز الدعم السياسي والمالي للفلسطينيين.
اليوم، تمارس إدارة ترامب وحكومة الاحتلال لعبة رفع السقف للحد الأعلى، على أمل أن يرضخ الطرف الآخر، لكن على الدول العربية أن تكون واضحة وقوية في موقفها، بأنه، "لا حل إلا بإقامة دولة فلسطينية"، ولا مجال لتمرير مشروع التهجير الآن أو في المستقبل. والموقف العربي يجب أن يتجاوز مرحلة البيانات والتنديد إلى اتخاذ خطوات فعلية، لأن 430 مليون عربي، بل وأكثر من 2 مليار مسلم، وملايين الناس من شتى بقاع الأرض المؤيدين للحق، سيكونون في صف هذه القضية العادلة.