لم يكن صدور مرسوم العقوبات البديلة في مملكة البحرين مجرد تعديل على المنظومة الجزائية، بل مثّل نقطة تحوّل نوعية في الفلسفة القانونية للدولة، انطلقت من رؤية ملكية سامية لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، تُعلي من شأن العدالة حين تقترن بالرحمة، وتؤمن بأن العقوبة ليست نهاية، بل بداية لمسار إصلاحي يعيد الإنسان إلى مجتمعه بقيم متجددة. وقد تعزز هذا النهج الإنساني بدعم ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، حفظه الله، عبر توفير بيئة مؤسساتية متكاملة تُسهم في إعادة دمج المستفيدين وتعكس التزام المملكة بمنظومة عدلية متقدمة ومشرّفة في مجال حقوق الإنسان.تبلورت هذه الرؤية بشكل أعمق في المؤتمر الدولي الأول للعقوبات البديلة، الذي نظمته المملكة ليكون منصة جامعة لصُنّاع القرار، والممارسين في مجالات العدالة والإصلاح، والباحثين في شؤون التأهيل المجتمعي، إلى جانب حضور خبراء ومتخصصين في العدالة التصالحية وحقوق الإنسان من مختلف دول العالم. وقد لاقى المؤتمر حضوراً رسمياً رفيعاً ضم الفريق أول معالي الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة، وزير الداخلية، وعدداً من الوزراء وكبار المسؤولين، وسفراء الدول الشقيقة والصديقة، ووفوداً دولية رفيعة المستوى، في دلالة واضحة على الثقل الدبلوماسي والفكري لهذا الحدث.القانون رقم 18 لسنة 2017 بشأن العقوبات والتدابير البديلة لم يكن خطوة نظرية، بل أُرفق بتطبيق عملي بدأ في عام 2018، وتم خلاله تنفيذ برامج إصلاحية ومجتمعية على نحو متدرج ومدروس. وتشير الأرقام الرسمية إلى استفادة ما يقارب 8278 فرداً من تطبيق القانون حتى الآن، خضعوا لتدابير بديلة شملت الخدمة المجتمعية، والدورات السلوكية، وبرامج التأهيل النفسي والمهني، في بيئات تركز على إعادة الإدماج لا على العزل، وعلى التمكين لا على الإقصاء.ما يجعل التجربة البحرينية لافتة للنظر ليس فقط مضمون القانون، بل البيئة المؤسسية التي أُحيط بها تنفيذه، من إشراف قضائي متكامل إلى تعاون بين مؤسسات الدولة وأجهزة إنفاذ القانون، وامتداد نحو المجتمع المدني والقطاع الخاص. ولعلّ هذا ما أعطى المؤتمر بعداً يتجاوز الإطار المحلي، ليصبح مناسبة لتبادل الخبرات واستعراض التجارب المقارنة، والانفتاح على مدارس فكرية وتشريعية متعددة، مع الحفاظ على الخصوصية الوطنية.لم يكن الهدف من هذا اللقاء الدولي مجرد التقييم أو الاستعراض، بل إطلاق حوار حقيقي حول العدالة المستقبلية، والتأمل في آليات تطويرها وتوسيع نطاقها، خاصة من خلال التركيز على تفعيل الرقابة القضائية عند تنفيذ العقوبات البديلة، وتوسيع الشراكات مع جهات غير حكومية للمساهمة في عملية إعادة التأهيل المجتمعي.حجر الزاويةيشكّل هذا المؤتمر محطة محورية في مسار تطوير العدالة الجنائية في مملكة البحرين، إذ تجاوز كونه تتويجاً لتجربة العقوبات البديلة، ليؤسس لنموذج وطني مستدام في العدالة الإصلاحية. وقد جاء بدعم من وزارة الداخلية بقيادة معالي الوزير، ومتابعة مباشرة من سعادة الشيخ خالد بن راشد آل خليفة، مدير عام الإدارة العامة لتنفيذ الأحكام والعقوبات البديلة، حيث أسهما في تحويل التشريع إلى ممارسة فعّالة.هذا الحراك يعكس رؤية تؤمن بأن العقوبة ليست نهاية، بل بداية لإعادة تأهيل الفرد وتمكينه من الاندماج. ومن هنا، فإن المؤتمر أرسى حجر الأساس لعدالة إنسانية تشاركية، قادرة على الإلهام وإعادة تعريف العلاقة بين المجتمع، والقانون، والكرامة الإنسانية.