في جلسة هادئة مع هاتفي، وبينما أتصفّح صفحات التواصل الاجتماعي، أعادني منشورٌ بسيط إلى سنواتٍ مضت؛ تلك الفترة الممتدة بين نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، حين كنتُ من الشباب الذين تُشعلهم الحماسة والشغف، يحملون قوائم المعتمرين بخطٍّ متعرج يشبه وصفة طبيب، ويكدّسون جوازات السفر في حقيبة جلدية منتفخة تكاد تنفجر من كثرة الأوراق.
في تلك الأيام لم يكن أحدٌ منا يعرف الذكاء الاصطناعي أو الهواتف الذكية، وكانت قمة التقنية بالنسبة لنا هي قلم جاف وحقيبة ثقيلة تحمل في داخلها المسؤولية الكبرى: ألا يضيع أحد، وألا ننسى جوازاً أو معتمراً في أي مكان. رغم بساطة التعليمات، إلا أن تنفيذها لم يكن سهلاً على الإطلاق. كنتُ أقف دائماً بجانب السائق، أحمل همّ الطريق الطويل إلى مكة، وخلفي عشرات العائلات المختلفة؛ كبارٌ في السن يطلبون التوقف كل بضع دقائق للاستراحة، وأطفال لا يكفون عن ترديد سؤالهم الأزلي: «وصلنا؟»، وشباب يتنافسون على المقاعد. وفي خضم هذه الرحلة المتعبة، تعلّمنا كيف نبتسم للجميع رغم الإرهاق، وكيف نصنع من كل تحدٍّ لحظة إنسانية لا تُنسى.
واليوم، بعد مرور كل هذه السنوات، أراقب باهتمامٍ وترقّب التطورات التكنولوجية والإبداع المتجدد في إدارة الحج والعمرة، وكأن الزمن نقلنا من عصر الأوراق إلى مستقبلٍ كان يبدو لنا آنذاك ضربًا من الخيال العلمي. كل سنة أنتظر بشغف ما تقدّمه التقنية من إبداعات، من روبوتات ذكية تقدّم الإفتاء للحجاج بلغات متعددة، إلى أنظمة ذكاء اصطناعي تدير ملايين الحجاج بسلاسة وانسيابية تامة. هذا التقدم يدفعني إلى المقارنة بين ماضينا الورقي وحاضرنا الرقمي، ويؤكد لي أن التقنية حين تُستخدم بشكلها الصحيح، تحوّل أصعب المهام إلى تجربة سهلة ومريحة.
إن ما يحدث اليوم في موسم الحج هو درس عملي مفتوح للجميع، لا يقتصر على الجهود الحكومية وحدها، بل يمتد ليشمل القطاع الخاص أيضاً، الذي استفاد من هذا التطور التكنولوجي ليقدّم خدمات مبتكرة؛ تطبيقات ذكية تُسهّل كل خطوة، بدءاً من التسجيل مروراً بالتنقل والإقامة، وانتهاءً بخدمات اتصال متطورة مثل شرائح الـeSIM التي تسمح للحاج بالبقاء متصلاً بالعالم دون عناء. هذه التجربة تمثّل فرصة حقيقية لحملات الحج لتواكب التطور وتقدّم خدماتها بشكل أكثر دقة وتنظيماً.
هذا النموذج الناجح هو أيضاً درس شخصي لكل منا في حياته اليومية. فالتقنية التي نستخدمها اليوم للترفيه والتواصل، يمكن أن تكون وسيلةً لتنظيم حياتنا بشكل أفضل، من إدارة أعمالنا اليومية إلى متابعة شؤون عائلاتنا. إنه تأكيد واضح بأن النجاح يحتاج إلى تخطيط مسبق وإرادة حقيقية، وليس مجرد استخدام لأحدث الأجهزة والتطبيقات.
ومن أجمل ما تعلمناه من تجربة تنظيم الحج هو أن الاستعداد للموسم المقبل يبدأ فور انتهاء الموسم الحالي. هذا النهج الاستباقي ينبغي أن يكون نموذجاً نقتدي به في كافة جوانب حياتنا، فلا نجاح يأتي بالصدفة، بل هو ثمرة جهد مستمر وتخطيط متقن.
وفي الختام، تبقى رحلة الحج تجربة روحية وإنسانية فريدة، مليئة باللحظات التي تستحق التوثيق. لذلك، لا تنسَ عزيزي الحاج أن تُصدر شهادة إتمام حجك عبر تطبيق «نسك»، لتبقى ذكرى حيّة تذكّرك دائمًا بتلك الأيام المباركة، وترافقك مدى الحياة. حجٌ مبرور، وسعيٌ مشكور، وذنبٌ مغفور بإذن الله.
* خبير تقني