مَن يتجوّل في أحيائنا اليوم، يلاحظ أن الجدران لم تعد مجرد حواجز إسمنتية يقصد منها الستر، بل تحوّلت إلى منصات تحمل عدسات إلكترونية ترقُب كل زاوية، وتُسجّل كل حركة، وتخترق أدق تفاصيل الحياة اليومية.

الكاميرات الأمنية لم تَعُد حكراً على المحال التجارية أو المؤسسات الرسمية، بل أصبحت جزءاً من تصميم المنازل، تُثبّت عند الأبواب، وعلى الأسوار، وتطلّ على الشوارع، وأحياناً تتجاوز نطاق المنزل إلى ما خلفه وما حوله.

من حيث المبدأ، جاءت هذه الكاميرات بدافع مشروع، وهو حماية الممتلكات والأسر، وتوثيق الحوادث عند الحاجة، وردع محاولات السرقة أو العبث. وقد أدّت بالفعل دوراً ملموساً في الكشف عن بعض الجرائم ومساعدة الجهات الأمنية في عملها.

لكن الواقع الذي يتكشّف يوماً بعد يوم، يُظهر استخداماً مفرطاً وغير منضبط لهذه الوسيلة. لاتوجد اشتراطات قانونية تحدد العدد المسموح به، ولا جهة تراجع زوايا التصوير، ولا نظام ينظم مدى تغطية الرؤية. كل شخص بات قادراً على تثبيت أي عدد من الكاميرات، في أي موقع، وبأي اتجاه، ما دامت مثبتة داخل حدود ملكيته، دون رقابة أو محاسبة.

هذه الفوضى في الاستخدام بدأت تُثير القلق في بعض الأحياء. هناك من يتعمّد توجيه الكاميرات نحو منازل الجيران، وتسجيل حركات المارّة، وتتبع تفاصيل لا تعنيه. وهناك من يحتفظ بتسجيلات لنساء الجيران أو أطفالهم، دون علمهم أو إذنهم، وهو ما يُعد انتهاكاً صارخاً للخصوصية.

ولسنا ببعيدين عن إحدى القضايا التي وقعت مؤخراً في البلاد، وكانت الكاميرات الأمنية إحدى شراراتها، بل عنصراً في تصعيد التوتر. سلوك تسبب في خلاف حاد بين جيران، تطور إلى جريمة قتل. وكان السبب المباشر كاميرا ثبتت بزاوية اعتُبرت تعدّياً على الخصوصية ومصدر قلق دائم لأحد الأطراف.

الاستمرار على هذا النهج يهدد نسيج العلاقات الاجتماعية. فترك الأمور دون تنظيم قانوني سيفتح الباب أمام مزيد من التوتر، ويحوّل الأحياء الهادئة إلى ساحات مراقبة متبادلة وتوجس دائم. هناك حاجة ماسّة لتنظيم رسمي يُلزم كل من يركّب الكاميرات بتحديد مدى الرؤية، واحترام حدود الملكية، وصون حرمة الجيران.

الأمن الحقيقي لا تصنعه الأجهزة وحدها، بل تصنعه الأخلاق والقوانين التي تحفظ التوازن بين الحماية والخصوصية، وبين الرقابة والاحترام. وكل وسيلة لا تضبطها التشريعات تتحول مع الوقت إلى أداة لخلق الفوضى وتأجيج الخلافات، وزرع بذور الشك والاضطراب في المجتمع.

لقد عاش آباؤنا في أحيائهم لعقود، وسط طمأنينة واحترام متبادل، دون أن يخشوا على خصوصياتهم. كانوا يرَون أن كل ما حولهم هو جزء من حرمة المكان، ومسؤولية أخلاقية قبل أن تكون قانونية. لا تزال ذاكرتنا تحتفظ بصور البيوت المفتوحة، والسيارات التي تظل واقفة طوال اليوم والمفتاح بداخلها، دون قلق ولا خوف.. ذلك الأمن الاجتماعي النظيف لم يأتِ من الأجهزة، بل من القيم.