في زاوية مضطربة من هذا الكوكب، وتحديداً في العالم العربي، يقف سؤال بسيط لكنه مرير: لماذا تنزلق بعض الدول إلى الفوضى، رغم أنها تحاول أن تكون «ديمقراطية»، بينما تحافظ أخرى على الاستقرار، دون أن تدّعي ذلك؟ الجواب، على ما يبدو، لا يكمن في صندوق الاقتراع، بل في عمق الدولة نفسها.في دول عرفت تحولات سياسية كبرى—من بغداد إلى بيروت، ومن دمشق إلى صنعاء، ومن مدينة سيدي بو زيد إلى طرابلس الغرب —لم تكن المشكلة في إسقاط الأنظمة فقط، بل في غياب أي شيء يُبنى عليه بعد السقوط. تحررت تلك الشعوب من حكم الفرد، لكنها اصطدمت بواقع أن مؤسسات الدولة التي كانت إما مفككة، أو لم تكن موجودة من الأصل. ما أعقب ذلك لم يكن «الربيع»، بل سلسلة من الفصول الدموية، تناثرت فيها الولاءات الطائفية والعرقية والميليشيوية، وحلّ السلاح محل الدولة، والشعار محل البرنامج، والانتماء محل المواطنة.البيروقراطية اختفت، الجيش تفتت، البرلمان أصبح شكلياً، ومؤسسات العدالة تحولت إلى أدوات صراع لا إلى أدوات إنصاف. لم تعد المشكلة في تأخر الديمقراطية، بل في انهيار فكرة الدولة نفسها. والنتيجة؟ شوارع تملؤها الشعارات، وصناديق اقتراع فوق ركام الوطن، ووعود انتخابية لا تصمد أمام أول رصاصة.في الجهة المقابلة من المشهد، تظهر دول الخليج العربي كاستثناء واضح، بل وصادم. فهي ليست ديمقراطيات كاملة حسب ما يوصفها ”الغرب"، ولا تُقدم كنماذج انتخابية مثالية، لكنها نجحت في ما عجزت عنه الأنظمة «المتحررة»: بناء دولة. الأنظمة الخليجية أدركت أن الشرعية لا تُكتسب فقط من التصويت، بل من تقديم الأمن، والاستقرار المجتمعي، والتنمية. فعملت على تقوية أجهزتها الإدارية، وحماية مؤسساتها السيادية، واتباع سياسة خارجية تبتعد عن المغامرات، وتقترب من التهدئة والحكمة.ولأن هذه الدول لم تُجرب حظها في العبث بالتماسك الداخلي أو تصدير الأيديولوجيا، فقد ربحت رهان الاستقرار. شبكات الطرق، البنية التحتية، المدارس، المستشفيات، والمشاريع التنموية أصبحت لغة يومية، لا خططاً مؤجلة. ورغم كل الانتقادات الغربية عن محدودية الحريات السياسية، فإن هذه الأنظمة استطاعت أن تُقدم لشعوبها شيئاً نادراً في العالم العربي والغربي: دول قائمة، ومجتمع قابل للحياة.الحقيقة المرة التي يتهرب منها كثيرون أن الديمقراطية لا تعني بالضرورة وجود دولة ناجحة، تماماً كما أن غيابها لا يعني بالضرورة الفوضى. هناك فارق شاسع بين الحرية والانفلات، وبين التغيير والانهيار. وحين تملك الدولة مؤسسات قوية، وجهازاً إدارياً فاعلاً، وقنوات شرعية لامتصاص التوترات، فإنها تكون أقدر على تجاوز الأزمات، دون أن تنفجر من الداخل.حجر الزاوية هنا ليس شكل النظام، بل فعاليته. ليس العَلم الذي يُرفرف فوق المباني، بل ما إذا كانت هذه المباني قادرة على تقديم خدمات، وحماية مجتمع، وصون كرامة المواطن. في زمن يعج بالانهيارات والتدخلات، نحمد الله على نعمة الخليج العربي، وتبدو بعض الدول وكأنها اكتشفت المعادلة الصعبة: لا ديمقراطية كاملة، ولا كبت مطلق، بل توازن واقعي، يحمي الدولة من الانفجار، ويمنح الشعوب فرصة للحياة.وفي نهاية المطاف، لا يُقاس النجاح بعدد الانتخابات، بل بعدد المرات التي استطاعت فيها الدولة أن تمر بعاصفة، دون أن تنكسر.