قبل أكثر من ثلاث وعشرين سنة، كنت وقتها أعمل في كلية التربية، وكانت كلية الآداب قد أعلنت عن مؤتمر علمي، فوجدت وزملائي هذا المؤتمر فرصة لنشر بحث، وصادف أن كنا ثلاثة زملاء نمشي مع بعضنا داخل الكلية، فطرح أحدنا موضوع المؤتمر، وضرورة مشاركتنا، فأجابه زميلي الآخر بأنه بالفعل أنجز بحثه، فرد عليه الأول بقوله: (انتبه، واهتم بالبحث فنحن نريد أبحاثاً صالحة لنستخدمها في أول ترقية علمية لنا) عندها توقف زميلنا صاحب البحث ووضع حقيبته على الأرض -وكان صاحب نكتة وفكاهة- ونظر إلى صاحبنا وقال له بالحرف الواحد: (أهتم بالبحث! والله سويت بحث حتى أنا من أقراه ما أفتهمه).

وأنت عزيزي القارئ، أنا متأكد من أنك جلست وسط مجموعة من المتحدثين أو حضرت برنامجاً تلفزيونياً لمتحدث، وشعرت أنك وسط جبال المعرفة وتكاد لا ترى نفسك بينهم، مع أنك لم تفهم جملة مفيدة وعبارة نافعة مما يقولونه، لكنك ترى آخرين يتفاعلون ويهزون رؤوسهم، وفي هذه اللحظات يخطر ببالك سؤال وجودي مهم "هل أحكمت إغلاق الطباخ قبل أن أخرج من البيت"! لكن لا تقلق بعد الآن، الموضوع بسيط جداً، لست هنا لأعلمك شيئاً، لكن يسعدني أن أؤكد لك أن المتفاعلين مع المتكلم والذين أشعروك أنك تكاد لا ترى بينهم، هم في الأساس لم يفهموا أي شيء مما قاله المتحدث، لكنهم نجحوا في تقديم ردود أفعال أشعرتك أنهم في طبقة أخرى من طبقات الأرض، أما إذا كنت معجباً بالمتحدث وتحلم أن تكون مثله، فتعال أخبرك ماذا فعل، لكني أشهد الله أني لا أنصحك أن تتبع ما سأقول وأتمنى أن تقرأه فقط لتميّز بين المتحدثين.

أهلاً بك في عالم الثرثرة المنمقة، والحكمة المصطنعة، في هذا العالم هناك مفتاح ذهبي وهو (المصطلح هو الحاكم) وأنت في الواقع لا تحتاج أن تُتعب نفسك في فهمه وهضمه، المهم حفظه عن ظهر قلب، ثم إلقاؤه وسط الحديث على المستمعين كما تُلقى القبلة اليدوية في الأفلام الأمريكية عند اقتحام البنايات، والتي تسمع بعدها كلمات من ملقي القبلة (clear, clear) أي أنه أخلى الساحة تماماً من أي خطر، وما على زملائه إلا الدخول، أنت كذلك اطمئن بعد إلقائك المصطلح سوف تربك الحاضرين وتجبرهم على تقديم ردود أفعال محددة مثل هز الرأس، الابتسامة، التعجب والانبهار، وكلها مصاحبة للاحترام، فعلى سبيل المثال إذا تحدثت في الاقتصاد، لا تقُلْ "الأسعار مرتفعة" فهذه لغة السطحيين، إنما عليك التوقّف عن الحديث للحظات تنهّد بعدها وقل: (اختلال التوازن السعري بفعل تضخّم هيكلي مستمر) ومعها حرّك يديك كأنك ترسم في الهواء، ليشعر المشاهد أنك شاشة البورصة، وهنا ستجد الحضور، تقلّصت عيونهم وارتجفت قلوبهم، ولكن -لا سمح الله- وهذا بعيد الحدوث لو أن أحدهم قال لك ماذا يعني هذا الكلام؟ هنا ما عليك إلا أن تقول له: (لا يمكن أن نفصّل هنا في هذه العبارة فوقت البرنامج -إذا كنت في برنامج- لا يسمح أو استغرقنا وقتاً طويلاً في هذه النقطة -إذا كنت في مجلس- ثم انتقل بعدها إلى موضوع آخر، لتضيع الموضوع وكأنك في مهمة استخبارية، وهنا لا داعي لتذكيرك أنك تحتاج إلى مفتاح ذهبي آخر وهو لغة الجسد).

هكذا يصبح كثير من الناس عميقين في طرحهم، لدرجة أنهم كصاحبنا عندما يسمعون ما تحدثوا به من قبل أو يقرؤونه لا يفهمون محتواه لقوة الطرح! والآن عزيزي القارئ أستميحك عذراً في مغادرة هذا التيه الذهني، فقد استدعاني دوامي بصوته الأجوف، غير عابئ بجلال الانشغال العقلي!

* عميد كلية القانون – الجامعة الخليجية