الضمير العالمي في وقتنا الحاضر يمر بأكبر امتحان له على صعيد بقاء، ولو الحد الأدنى من إنسانيته، التي يُفترض بها أن تكون ملاذنا الأول لإنقاذ السلام والبقاء الإنساني عندما لا تسعفنا عقائدنا ولا مبادئنا للدفاع عن كرامة وحقوق بني البشر.

ولكن بكل أسى، ننعى اليوم ذلك الضمير المتصف باللامبالاة المتعمدة وانهيار بنيانه القيمي، وهو يواصل، على المكشوف، ادعاء القلق المزيف وافتعال المعارك الهامشية باسم حقوق الإنسان، في انتقائية مبتذلة تضرب بعرض الحائط حقوق الإنسان «النكرة»، القابع على الضفة الأخرى كضحية دائمة لجريمة التآمر على حقه في الوجود.

فنحن اليوم، وللأسف، نعيش وضعاً إشكالياً مفتعلاً مليئاً بالتحيز والتناقضات، بين مثل عليا تدّعيها القوى الأعلى صوتاً والأقوى بأساً باسم مواثيق ومعاهدات فقدت صلاحيتها وجف حبرها، وبين واقع مجحف يهدر دماء من لم تهب تلك الأوراق الباهتة لإنقاذهم من رحى الحروب التي تطحن كل أمل بصلاح الأحوال ورجوع استحقاق العيش في أمان.

ولعل آخر الرسائل القادمة من ساحات ذلك الواقع الهجين، صرخة الطفلة الغزاوية قبل أيام، التي تتمنى الموت لتُرحم من ألم الجوع، وتهنأ بطعام الجنة! إنها صرخة ليست كأي صرخة، بل دويّ بوق عظيم يعلن السقطة الكبرى لإنسانية البشرية، مع استمرار هذه الحالة الجنونية من العبث في المصائر دون رادع أو ضابط، ودون أي اكتراث بأن للحروب أصولاً وقواعد تسنها، قبل القوانين الدولية، أوامر إلهية وأعراف إنسانية وضوابط أخلاقية تجاه المدنيين، على أقل تقدير.

وما دمنا لا نستطيع، بأي شكل من الأشكال، أن نقارع هذا الاعتلال في موازين الرحمة الإنسانية، ولا يبدو أن في المستقبل القريب ولا البعيد أملاً لقيام نموذج أكثر إنصافاً وحرصاً على مستقبل أهل الأرض، بعيداً عن الظلم وازدواجية المعايير التي تهيمن على واقع الأحداث دون اكتراث لألم ومعاناة من هم في دائرة النيران. أقول ما دام العجز سيد الموقف أمام هذا التحيز العالمي السافر، أليس من المنطقي أن تقطع قوى الداخل الطريق على مثل هذا البطش والجبروت والتفنن في سياسات القتل والتعذيب والحصار المادي والمعنوي، وآخرها سياسة التجويع الفاجرة التي تُمارَس اليوم على أهل غزة على مرأى ومسمع الجميع؟

وأقصد بذلك أن تتعالى القوى الفاعلة في هذا المشهد المعقد فوق صراعاتها الداخلية وأوهامها المزمنة بأن سلاحها سيُحدث فرقاً، لتؤسس لواقع مختلف عبر تقديم تنازلات لا بد منها في مثل هذه الأوقات الحرجة للغاية. ونذكر في هذا السياق، عندما قام الحاكم الفاطمي بتسليم مفاتيح القدس في زمن الحملة الصليبية الثالثة، لأنه لم يكابر في وجه الحقائق، وتصرف بحكمة بالغة لحفظ الأرواح، حكمة مكنّت المسلمين لاحقاً من قلب الموازين ضمن دورة تداول الأيام.

فما المانع إذن، من استجلاب مثل هذه الدروس والعبر وإسقاطها على الحاضر، الذي هو بأمسّ الحاجة إلى الخروج من عنق الزجاجة، في مواجهة طرف يتفوق علينا في كل شيء، ويستغل كل فرصة لفرض سياسة الأمر الواقع على رؤوسنا؟

أسأل، بقلب يدمي، بالنيابة عن كل صرخة نابعة من عذابات أطفال غزة، لماذا لا تتحلى المقاومة الميدانية بالشجاعة التاريخية التي ينتظرها الجياع، والمرضى، والثكلى، والأيتام؟ ولماذا لا تُنهي أزمة الرهائن مقابل نجاة أهل غزة، وتتخلص من بارود السلاح لتأمين سلامتهم، ثم تنسحب لصالح من يملك إمكانيات التفاوض لصالح الدولة الفلسطينية، بعد أخذ كل الضمانات اللازمة للنأي بالمدنيين العزّل من حمل وزر من كان السبب في حرقهم وهم أحياء؟

قد تبدو التساؤلات ساذجة ومهينة لمن اعتاد كآبة المنظر واحترف صناعة الموت، ولكن معطيات الواقع تخبرنا بأن المدّ هائل، واحتمالات تغيير الحسابات أصبحت معدومة، مع حرب تشارف على إكمال عامها الثاني. أما الشيء الوحيد المتبقي فهو الإقرار بأن الوقت قد حان لوقف هذا الظلم المجنون، وذلك من أضعف الإيمان!